السبت، 10 نوفمبر 2012

توبة الخباز



 توبة الخباز



 


ستدور عجلة الزمن للوراء قليلاً عائدين إلى أواخر عهد الدولة العثمانية عندما شذَّ الناس وتهاونوا

في تطبيق أوامر الإله وفرائضه، عندها اقتضت حكمة الله تعالى أن يضيِّق على أولئك البشر ويبعث

لهم من المصائب والشدائد علَّهم يصحوا ويعودوا لرشدهم، فعمَّت الفوضى في جهاز الحكم وبالتالي

بين الرعية... تلك الفترة سُمِّيت بـ (سفر برّ)، حيث سُيِّرت الجيوش للترعة للقتال، واتَّصفت
بالمجاعة الكبرى من قلة المواد الغذائية لتوالي سنوات القحط والجفاف والجراد والحرب العالمية
الأولى، فعانى الناس الجوع والحرمان... لذا عمدت الدولة لاتخاذ إجراءات صارمة فأصدرت ما
يُعرف بإسم القسائم: تستطيع كل أسرة أن تحصل بموجبها على كمية محدَّدة من الخبز يومياً تبعاً
لعدد القسائم الممنوحة لها وتبعاً لعدد أفرادها، أي أن عدد القسائم بعدد أفراد الأسرة، وبموجب كل
قسيمة عدد محدد من الخبز للأسرة (رغيفين أو ثلاثة) فقط ولا تستطيع الحصول على أكثر من مخصصاتها. 

تعال أخي القارئ لنعيش في تلك الفترة قليلاً من الزمن مع السيد محمد أمين عندما تعرَّض لموقف
رهيب... كيف تصدَّى لمشكلة خطيرة...لنتابع سوياً. 

في أحد أحياء دمشق كان هناك فرن (مخبز) يشغله فرَّان (خبَّاز) شرير فاقد المروءة، فاقد الدين
والشرف... كان هذا الطاغية يستعلي على الناس... وعلى أبناء حَيِّه فهو من عائلة غنية ذات جاه
عريض ومكانة مرموقة في جهاز حكم الدولة، وهو صاحب هذا الفرن والناس كلها بحاجته...
فيستغل ما هم فيه من حاجة للرغيف! كان لا يخشى أحداً لما يلقاه من دعم عائلته وغناها، حتى ظنَّ
أن كل أولئك الناس تحت إمرته لأنهم بحاجته... فهو يعطي وهو يمنع... ظنَّ أنه يستطيع النيل من
الفتاة التي يرغب ونسيَ أن الله ملِك الناس، كلهم في قبضته وكلهم في يده فلا يسلِّط الظالم إلا على
ظالم، ولا يطول الزاني إلا زانية على شاكلته... أما الطاهرة العفيفة مُستحيل أن يطولها، فالله قاهره لا محالة. 

ذات يوم بلغته بعض الأخبار التي تناقلتها ألسنة بعض نساء الحي الغبيات وهو أن بنت (فلان) فتاة
شابة لا مثيل لجمالها في الحي كله... فجمالها منقطع النظير وهي في ريعان الصبا، بلغه الخبر عن
طريق عائلته (أمه أو أخته أو...). 

أما هو فيعرف أن بنت فلان تأتيه يومياً لتأخذ خبز أسرتها التي لا معين لها، فأب الأسرة (والدها)

رجل طاعن بالسن وعاجز وإخوتها صغار أطفال، أما أمها فقد فارقت الحياة منذ سنوات عدّة، فما
من أحد يستطيع الخروج وشراء حاجات البيت إلاَّ تلك الفتاة. 

طبعاً الحجاب كان مطبَّقاً على كافة النساء المسلمات بذاك العهد، فكانت تلك الفتاة تخرج فلا تُعرف
أهي شابة أم عجوز... جميلة أم قبيحة... لا تظهر إلاَّ كقبة سوداء. 

القسائم التي تقدِّمها للفرَّان بإسم (فلان) والدها، هذه الأنثى التي تأتي الفرن وتحمل قسائم (فلان) هي
ابنة فلان... إذاً ها هي الفتاة التي ذاع صيت جمالها... هذا ما أدركه الفرَّان الخبيث، ثم أضمر بنفسه نيةً خبيثة. 

وفي صبيحة اليوم التالي وكالعادة وبعد شروق الشمس جاءت الفتاة لفرن الحي لتأخذ مخصَّصات
عائلتها اليومية من الخبز، وقفت تنتظر أمام النافذة المخصَّصة للنساء إلى أن حان دورها فمدت
دفتر القسائم... نظر الفرَّان فيه... إنه بإسم (فلان) والدها... فعرفها... إنها هي... إنها الفتاة
الشابة... فريسته التي نوى عليها... تجاهلها ولم يستلم الدفتر منها، فلم يسلِّمها حقَّها من الخبز...
فوقفت تنتظر مستغربة هذا التصرُّف من الفرَّان ما السبب لا تدري... لكنها وقفت وغيرها يأخذ
الخبز... إلى أن خلا الفرن من الناس ولم تبقَ إلا تلك المسكينة (مكسورة الجناح) بقرب النافذة
الكبيرة محتارةً ما الأمر لا تدري!!! 

وقفت وكلها حياء تود لو تذهب ولكن عليها أن تأخذ الخبز لأبيها العاجز، وإخوتها الصغار
ينتظرونها لطعام الإفطار فقال لها الفرَّان الخبيث بعيونٍ مملوءة بالخيانة والعصيان: لن أعطيك
الخبز حتى أنال منك ما أبغي... 

لم تحتمل ما سمعت... صدمة مرَّة قاسية صدمت قلبها الطاهر العفيف فأدارت ظهرها وأسرعت
خطاها للبيت فلا خبز معها، ولكن شرفها وطهْرها يتوِّجها وعند الله يرفعها... ونفسها تقول: لا وألف لا. 

وهكذا باتت الفتاة الطاهرة وأهلها يعانون الجوع... ومضى اليوم وأطلَّت شمس صباح اليوم التالي
 وعادت الفتاة الطاهرة لتطلب حقَّها وحق أبيها وإخوتها من الخبز فعسى أن يكون ذلك الفرَّان
اللاإنساني قد تراجع عن إجرامه وغيِّه... ولكن يا لمصيبة تلك الطاهرة المسكينة، لقد كرَّر ذلك
المجرم ما كان طلبه منها في اليوم الماضي... لقد عاد لطلب الفاحشة منها مقابل إعطائها حقّها من
الخبز... رغم الجوع والحرمان تركت الفرن وغادرت بسرعة بخطاها محتقرةً ذلك الوحش
المجرم... قلبها يتقطع ألماً على إخوتها وأبيها... تثور ثورة الشرف فيه على ذلك الطاغية. 


عادت البيت وعيونها تملؤها الدموع... 

استقبلها إخوتها فلم يجدوا خبزاً بيدها فانفجروا بكاءً وهم يتضوَّرون جوعاً... أين الخبز يا أختي...
أين الخبز يا أختي. 

ردَّت وهي تحتضنهم وتمسح دموعهم... أما دموعها فتجري بغزارة... أما قلت لكم يا إخوتي
فالفرن ما زال معطلاً عن العمل. 

ولكن ما الحل... تذهب لفرن الحي الثاني؟ لا تستطيع فقسائمها مخصَّصة بهذا الفرن والفرن الآخر
لن يعطيها الخبز فمخصَّصاتها ليست من عنده، بل من فرن حيِّها... ولكن ما العمل؟ 

عادت في اليوم الثالث والألم يعصر قلبها... ويا للأسف فالمجرم ما زال مصراً على إجرامه... فلقد
طغت شهوته عليه فحوَّلته لوحش مفترس لا يفكِّر بالصغار الذين يكابدون الجوع... يكتب بيده
مصير أسرة فقيرة للهلاك مقابل شهوته الحقيرة ووحشيته الطاغية. 

تركت الفرن ورجعت في طريقها تملأ الدموع مقلتيها ورجْلاها لا تحملاها، بل تتهادى كالسكارى
وما هي من السكارى ولكنه الجوع الكافر هدَّ قواها وجعلها كأنها شبح تتلاشى قواه. 

كان يرقب هذا الوضع طيلة الأيام الثلاث شيخ مسن طيِّب القلب، فلقد أدرك ما في الأمر فحزَّ الألم
والحزن بقلبه لوضع تلك المسكينة وأسرتها فاقترب منها وقال: 

يا ابنتي اذهبي إلى رئيس قسم حيِّنا واشتكي له... فهو الذي يحلُّ لك مشكلتك ويُعيد لك حقَّك،
فادخلي هذا القسم المقابل للفرن وقصِّي عليه الأمر. 

كان ذاك ضابطنا السيد محمد أمين... إنه رئيس قسم الشرطة في هذا الحي. 

سمعت الفتاة ما قاله الشيخ الكبير، فمشت بصعوبة وإعياء إلى القسم المواجه للفرن قاصدة الضابط
الرئيس... دخلت بثياب الستر والعفاف تغطيها من رأسها لقدمها، مخفية جلال جمالها الشاحب
المحتار المترع بالشرف. 

طرقت باب المكتب... كان رئيس القسم في مكتبه جالساً وراء طاولته، صاح: 

تفضل... ادخل... فُتح الباب بهدوء وتردُّد ودخلت تلك الفتاة بخطاً بطيئة متردِّدة من بالغ الحياء
والشرف الذي بقلبها مع ضعف جسدي وانهيار ظاهر، ولكن ما تزال أصوات بكاء الصغار الجياع
تدق أذنيها... وما بقي لها إلاَّ هذا الأمل الوحيد. 

سارت إلى أن وقفت قبالة رئيس القسم، ولكن لم تتكلَّم بأية كلمة... صعب عليها أن تنطق بكلمة
أمامه إلاَّ أن دموعها كانت تسيل بغزارة... 

أحسَّ إنساننا ببكائها... فسألها ما الأمر يا أختي... تكلَّمي... ولكن لم تستطع الكلام، بل زادت بكاءً. 

أدرك إنساننا كبير معاناتها فقال لها: أختي تكلَّمي ما الأمر... هيا تكلَّمي. 

فاعتصرت بنفسها إلى أن استطاعت أن تبوح بكلمات ثلاث: 

آه... آه... الفرَّان... لا يعطيني خبزاً...آه آه... الفاحشة... 

عند ذلك فهم ضابطنا ما في الأمر فهبَّ كالإعصار، ثم اندفع كالعاصفة حاملاً سوطه بيده مردِّداً بنفسه: 

هكذا إذاً أيها الفران النذل... أيها المجرم الحقير... سترى... اندفع بخطوات مسرعة تكاد لا تلامس الأرض. 

وما أن وصل الفرن حتى تفرَّق الناس عن الفرن يمنة ويسرة لمنظره الغاضب وثورته الرهيبة
وبسرعة انقض من فوق طاولة البيع إلى الداخل... 

ذُهل الفرَّان وضاع صوابه الخاطئ فلم يدرِ بنفسه إلاَّ وهو مجرورٌ من شعر رأسه وكتفيه لخارج
الفرن وفي وسط الشارع وأمام كل الناس أصبح مذلولاً محتقراً... ليس بمقدوره أن يبدي أية مقاومة
تحت بطشة السيد محمد أمين المُحِقَّة وثورته للحق القوية، فقد طاش صوابه وخارت قواه... وفي
قسم الشرطة غَضَبُ الله حلَّ عليه. انهال عليه الضابط الشريف الثائر ضرباً بيديه فارتمى أرضاً
فانهال عليه ركلاً ووطءاً بقدميه، ثم ضربه بسوطه ولم يتركه حتى أضحى وكأنه جثة هامدة تسيل
دماؤه من كل موضع بجسمه، وأضحى بحالة تعيسة جداً لا يُحسد عليها أبداً، لقد تضخمت قدماه من
الضرب تغطيها الدماء... 

لقد لقيَ قصاصه على يد الضابط الشجاع، لقي ما عانته تلك الطاهرة من آلام بقلبها وآلام إخوتها
وأبيها... إذ كاد أن يهلكهم جوعاً باستغلاله وطغيانه... بوحشيته وإجرامه. 

ثم أمر الضابط جنوده قائلاً: 

هيا خذوه... خذوا هذا الوحش وأسعفوه لأقرب مركز طبي لإجراء اللازم له وإن مات فإلى جهنم وبئس المصير. 

ثم خرج ضابطنا وما تزال لآثار ثورته الهدَّارة بقية باقية، عاد للفرن ثانية فأخذ مخصَّصات الأيام
الثلاثة الماضية، ولم يكتفِ بذلك بل عيَّن لهذه الأسرة عنصراً من أشرف عناصره فكلَّفه بإيصال الخبز يومياً إلى بيتها. 

لقد أحقَّ الحق بقوة وشجاعة فضرب على يد الجاني الظالم واقتصَّ منه، بل محى صورة من أبشع
صور الإجرام ولم يبالِ بكل ما يمكن أن ينتج عن هذا العمل الحكيم، لم يبالِ كون هذا الفرَّان من
عائلة غنية لها مكانتها المرموقة في جهاز الحكم... لم يعبأ بما سينتج عنهم وما سيكيدون له انتقاماً
منه لنصرة الفرَّان، فلقد نشأت في نفسه ثورة قوية للحق... للشرف... لم تهدأ إلاَّ حتى يأخذ الحق
مجراه ويضرب بشدة على يدِ الظالم الجاني. 

أما ذلك الظالم الطاغي فقد لقيَ عقابه... لقيَ جزاء عمله وإجرامه بحق الفتاة الشريفة والأبرياء
الصغار... فبقي طريح الفراش مدة شهرين يُعاني آلاماً مبرحة وأوجاعاً رهيبة. 

والسيد محمد أمين وبترتيب الله انتدبته الحكومة التركية للسفر إلى تركيا في مهمة رسمية عاجلة
فسافر، وبذلك غاب عن الأنظار بهذه المهمة ولم يستطع أحد النوال منه، بل ولا مسَّه بشرٍ، وبذلك
حماه الله من كل مكيدة كانت سَتُكاد له. 

بقي الفرَّان يكابد آلامه... يُعاني أوجاعه... يشتعل قلبه حقداً... لا تبرح مخيلته صورة ذلك الضابط

كيف أذلَّه وسط الشارع بين كل الناس وهو العزيز الوجيه... كيف ضربه في القسم حتى جعله من
سكان المستشفى... كيف أحلَّ به هذه الآلام والأوجاع فيغلي قلبه حقداً... فكيف سيقتص منه ويردُّ له
الصاع صاعين وكأنه يُحدِّث نفسه: 

كان عليَّ أن لا أستسلم له... تحت يديه... هو رجل وأنا رجل فما الذي دهاني حتى خارت قواي...
الأيام قادمة ولا بد أن أُشفى وأعود لك أيها الضابط... يا رئيس القسم... عندها سترى من الرَجُل فينا... 

لم يستطع أن ينساه ولو للحظة... حتى إنه كان يحلم به في نومه. 

وما إن انقضى الشهران الأليمان على هذا الحال حتى أحسَّ الفرَّان في نهايتهما ومع شفائه من آلامه
وجروحه بأن قلبه أيضاً قد شُفي من إجرامه... من حقده... من باطله... راجع نفسه وناقشها فوجد
أنه كان في محض الإجرام وأي عمل قاسٍ بحق الفتاة وعائلتها أقدم عليه... أي نيران كان سيجلبها
لنفسه... يبكي توبة نصوحاً... فلم يعد يستطيع أن يتصوَّر ما كان غارقاً فيه من أعمال منحطَّة
وعصيان... فيحمد الله أن بعث له ذلك الضابط الشريف السيد محمد أمين نبَّهه بما آلمه فخلَّصه مما
هو فيه من إجرام... فصار يصلِّي... يقرأ القرآن... يعامل الناس بالإحسان وبتواضع حقيقي نابع
من أعماقه التائبة يتمنَّى أن يرى ذلك الضابط الإنسان ليقبل يديه، بل قدميه على ما فعله معه
واقتصه منه، فكان سبباً في عودته لرشده وتوبته ورجوعه لله، بل كان منقذاً له من نيران الآخرة
إلى جنانها ومن شقاء الدنيا إلى النعيم والسعادة بالقرب من الله. 

وتمضي الأيام والشهور والسنوات وذات يوم وبينما كان ضابطنا السيد محمد أمين (وكان إذ ذاك قد
أُحيل على التقاعد) يعبر أحد الطرقات وإذ بشيخ ذي هيبة ووقار ينقضُّ على تقبيل يده ودموعه
تنسال بغزارة على وجنتيه المشرقتين فسحب يده بسرعة خاطفة، كان هذا الشيخ الوقور جالساً على
كرسي أمام باب داره بعد صلاة العصر (كعادة أهل الشام قديماً) يقرأ القرآن عندما شاهد ضابطنا الذي لم يتذكره. 

رفع هذا الشيخ وجهه وبعيون تملؤها الدموع نظر بإنساننا وقال: 

الله... الله... ألا تذكرني يا سيدي... بالله عليك دعني أقبِّل يديك الطاهرتين السخيتين ثانية... أُقبِّل
رجليك فما أنا وما فيه من نعمة وسعادة إلاَّ بعضاً مما تفضلت به علي. 

إني أنا الفرَّان الذي كنت قد ضربتني فكنت سبب توبتي وأوبتي إلى الرشاد والحق، (ضَرْبُكَ
أوصلني للجنة) أيها المحسن المُقاصص الرحيم، جزاك الله عني خير الجزاء أيها المنقذ الكريم. 

فأعْظِمْ بهذا الإنسان الرحيم ذي القلب الكبير والذي إن ضرب امرءاً لله كان ضربه سبباً يؤدي به إلى الجنان. 

ليست هناك تعليقات: