الردة
وهي في الشرع : الكفر بعد الإسلام، كما قال تعالى: (ومن يرتتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
والردة عن الإسلام تحدث بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام، وهي كثيرة ومتنوعة منها ما يكون بالقول ومنها ما يكون بالفعل، ومنها ما يكون بالقلب.
ونحن في هذا العصر نعيش تمرداً خطيراً على الإسلام وشرائعه، ليس من ملل الكفر وحدهم، بل ومن المسلمين أنفسهم، وهذا التمرد له صور شتى سواء في العبادات أو المعاملات أو السلوكيات.
ففي جانب العبادات هُجر كثير من ثوابت الإسلام وأركانه التي تعد شرطاً في صحة إسلام الفرد، فكثير من الناس لا يقيم الصلوات المفروضة عليه، ومن ترك الصلاة فقد كفر كما في الحديث الصحيح عن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) أخرجه النسائي وغيره.
وعلى هذا فصيام تارك الصلاة وزكاته وحجه وسائر عمله مردود عليه لا يقبل منه لأن الصلاة شرط في صحة عمله هذا. ومن هنا تبرز خطورة الصلاة وقيمتها في حياة المسلم، وأنها المعيار الذي إذا قبل قبل سائر العمل، وإن فسد فسد سائر العمل. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر) رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح.
كما هجر كتاب الله، لا يقرأ، ولا يعمل به، ومن قرأه فلا يكاد يتدبره، بل ولا يعرف معانيه.
ومن أبرز صور التمرد على الإسلام في المعاملات تنحيته عن الحكم بين الناس، وتشريع قوانين بشرية ناقصة، بدل شرائع الإسلام ونظمه التي هي مجموعة من المحاسن يجتمع فيها خيري الدنيا والآخرة، وهي الكفيلة بإسعاد البشر كافة في معاشهم ومعادهم. (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).
وقد قسم أهل العلم الردة إلى أقسام أربعة
1- الردة بالقول، كسب الله عز وجل، أو سب الدين أو سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو الطعن فيه أو انتقاصه بأي قول، أو اتهامه بعدم البلاغ، أو السخرية من شخصه -صلى الله عليه وسلم- أو النيل من عرضه -صلى الله عليه وسلم-. أو اتهامه -صلى الله عليه وسلم- بالفشل في حياته أو في دعوته كما قال ذلك البغدادي المأفون.
وكذلك السخرية من الإسلام أو من شيء من أحكامه وشرائعه وسننه، أو اعتباره غير صالح لهذا الزمن وأن على الناس أن يتخلوا عنه ويبحثوا عن مصادر غيره لقوتهم وعزتهم، أو اتهامه بأنه دين رجعي متخلف يدعو إلى الجمود، أو أنه غير مرن،... الخ من الألقاب الردئية التي يوصم بها الإسلام ليل نهار وتتناقلها وسائل الإعلام شرقاً وغرباً.
ومن هذا الباب امتهان المصحف وإلقاؤه في أماكن القاذورات أو دوسه بالأرجل، كما يفعل السحرة المجرمون، والسحر -أيضاً- من أنواع الكفر الذي يرتد به صاحبه عن الإسلام. كما قال تعالى في سورة البقرة [102] {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}. فقوله (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر..) دليل على كفر الساحر.
ومن ذلك محاربة شرائع الإسلام وأحكامه الخاصة بالجنسين، وأنه لم يعدل حين فرق بين المرأة والرجل، بل ظلم المرأة وهضمها حقها، فهذا كفر وزندقة وردة مقيتة إن صدرت من مسلم.
ومن صور الردة القوليه: دعاء غير الله أو الاستغاثة به، أو الاستعانة به ونحو ذلك من صور الشرك القوليه إذا صدرت من مسلم فإنه يخرج بها من الإسلام ويسمى مرتداً.
مثال ذلك الذين يستغيثون بالأولياء أو مشائخهم، فإذا وقعوا في مأزق دعا أحدهم شيخه أو وليه المزعوم وطلب منه تفريج الكربة، وهذا كفر أشد من كفر المشركين الأول، لأن أولئك كانوا يشركون في الرخاء، وهؤلاء يشركون في الرخاء والشدة.
2- الردة بالعمل: مثل السجود للقبور أو الأصنام، أو الأشجار أو الحجار، بل هناك من يسجد للفروج، ويعتبرها آلهة ومعبوداً. والحمد لله على نعمة العقل.
ومن ذلك الذبح لغير الله، وهو كفر وردة لأن الذبح عبادة لا تصرف إلا لله، وفي صحيح مسلم من حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة قال كنت عند علي بن أبي طالب فأتاه رجل فقال ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسر إليك قال فغضب وقال ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئا يكتمه الناس غير أنه قد حدثني بكلمات أربع قال: فقال: ما هن يا أمير المؤمنين قال: قال: (لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من غير منار الأرض).
ومن ذلك التمرد على الحجاب واعتباره من مظاهر التخلف والرجعية، ومحاربته وإقصائه من واقع الناس، وكم سمعنا عن نساء قمن بخلع حجابهن، وتمردن عليه وعلى الفضيلة، وأصبحن عاريات من اللبس ومن الدين ومن الحياء ومن الخلق.
وقد أصبحنا نرى ونسمع العجب العجاب الذي لا يكاد يصدق. ففي بلد كان يوماً يعد منار الدين والإسلام، تمرد أهله عليه رويداً رويداً حتى انسلخوا منه انسلاخاً، وأصبح الإنتساب إلى الإسلام في ديارهم جريمة يعاقب عليها. ولما أصابهم الله بزلزال مروع عقوبة لهم على التمرد، ولعلهم يثوبون إلى رشدهم ما زادهم ذلك إلا عتواً ونفوراً، ومن العجب أن السلطات في هذا البلد المنكوب اعتبرت القول بأن ذلك الزلزال المدمر تحذيراً إلهياً بسبب التمرد على أحكام الشرع، اعتبرت ذلك التحذير تحريضاً للمواطنين على العداء الديني والمذهبي. وهو في حد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون العلماني في ذلك البلد البائس، والله الموعد.
وقد يدخل في الردة العملية التشبه بأعداء الإسلام مثل التزيي بزيهم، أو قص الشعور كقصاتهم، أو الأكل والشرب بطرقهم ووسائلهم، فهذا إذا قارنه محبة قلبية يكون ردة عن الدين والعياذ بالله، وهذا مما عمت به البلوى في هذا العصر، وانتشر انتشاراً كبيراً خصوصاً بين الشباب والنساء، فأصبح كثير من شبابنا يحاكون اليهود والنصارى في عاداتهم وكلامهم ومآكلهم ومشاربهم وفي سلوكياتهم الذميمة، ويعدون ذلك تقدمية ومدنية، وهو انحراف وفسوق، فمثلاً كثير من الشباب يقصون شعورهم بصورة تعد مثلة في الإسلام وذلك بقصه بشكل دائري من أسفل الرأس وترك ما على قمة الرأس دون حلق، وهذا فيه محذور من وجهين: الأول: أنه مشابهة لأعداء الله، والغريب أن هذا العمل لا يعمله منهم إلا الأراذل الذين يعدون من سقط المتاع، فلا نرى علماءهم أو مفكريهم أو قادتهم يعملونه -وهم ليسوا قدوة ، وإن عملوه- وإنما يغلب ذلك على الشذاذ جنسياً، أو ما يعرفون بالهيبز أو الجنس الثالث، ونحوهم من السفهاء، وصدق ابن القيم عندما قال عن هذا العمل: إنما يفعله السفلة من الناس.
المحذور الثاني: أن فيه مخالفة لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما نهى عن القزع كما الصحيح، وقد فسره في بعض الطرق بأنه حلق بعض الرأس وترك بعضه.
3- الردة بالإعتقاد: وهو الأساس، كاعتقاد الشريك لله، أن أحداً يملك الضر والنفع غير الله، أو أن غيره يملك التصرف في شيء من هذا الكون، أو أنه يستطيع أن يغير القضاء والقدر ونحو ذلك، وكذا من اعتقد شيئاً يخالف ما علم من الدين بالضرورة، كالذي يعتقد أن الناس يسعهم الخروج على شريعة الإسلام، أو أن اليهودية أو النصرانية اليوم ديانة صحيحة يمكن للناس أن يتدينوا بها... أو اعتقد أن هناك نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا من جحد شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة كاعتقاد عدم فرضية الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصيام، أو الجهاد...
ومن هنا يظهر ضلال الذين يتخذون الأولياء من دون الله أنداداً، ويعتقدون فيهم ما لا يصح أن يعتقد إلا في الله، ومن ذلك محبة غير الله كمحبة الله أو أشد. ويسمى كفر المحبة، وكذلك طاعة المخلوقين فيما يحرمون أو يحللون من عند أنفسهم فذلك معدود من الكفر والعبادة لغير الله.
4- الردة بالشك في شيء مما سبق كالشك في تحريم الشرك أو تحريم الربا... الخ من الأمور المتقدمة قبل قليل فمن اعتقدها أو شك فيها فهذا نوع من الردة والكفر الصريح والواجب فيها هو الجزم بمشروعية ما شرعه الله منها، والجزم بحرمة ما حرمه الله منها دون شك ولا ريب ولا تردد.
من أحكام الردة:
إذا علم هذا فهناك أحكام شرعية تترتب على المرتد يمكن تلخيصها في الآتي:
1- وجوب استتابته من ردته تلك بأن يقلع عما كان سبباً في خروجه من الدين، ويعلن براءته من ذلك العمل الفاسد، وتكرر عليه التوبة، ويخوف من الله ويبين له خطورة الأمر.
2- إذا لم يتب فيجب أن يقام عليه الحد: فيضرب عنقه بالسيف ردة، ويعلن ذلك على الملأ ليكون عبرة لمن سواه. وذلك للحديث الصحيح: ( من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري وغيره.
3- إذا مات أو قتل على الردة فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل توارى جيفته في مكان بعيد عن المسلمين أو يقبر في مقابر اليهود والنصارى.
4- لا يدعى له بالرحمة ولا يستغفر له، وكذا لا يتصدق عنه لأنه مات على غير ملة الإسلام.
5- لا يرثه أحد من أقاربه المسلمين، بل ماله فيئاً لبيت مال المسلمين، كما أنه يمنع من التصرف في ماله طيلة ردته إلا أن يراجع دينه فيعود إليه ماله.
6- إذا كانت زوجته مسلمة فإنها تطلق منه، ولا يحل لها البقاء معه ساعة واحدة، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم لقائك ، واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق