رسالة من التاريخ
رد قطز على رسالة هولاكو:
كان هولاكو يعد جيشه لمهاجمة ما تبقى من بلاد الإسلام، فبعث برسالة تحذير وتهديد كلها غطرسة وكبرياء وتجبر إلى قطز ، أورد المقريزي نصها، وفيها :
( من ملك الملوك شرقًا وغربًا ، القان الأعظم ، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز ، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم ، يتنعمون بإنعامه ، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك ، يعلم الملك المظفر قطز ، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته ، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنَّا نحن جند الله في أرضه ، خلقنا من سخطه ، وسلطنا على من حل به غضبه.
فلكم بجميع البلاد معتبر ، وعن عزمنا مزدجر ، فاتعظوا بغيركم ، وأسلموا إلينا أمركم ، قبل أن ينكشف الغطاء ، فتندموا ويعود عليكم الخطأ ، فنحن ما نرحم من بكى ، ولا نرق لمن شكى ، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد ، وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم البلاد ، فعليكم بالهرب ، وعلينا بالطلب ، فأي أرض تأويكم ، وأي طريق تنجيكم ، وأي بلاد تحميكم ، فما من سيوفنا خلاص ، ولا من مهابتنا مناص ، فخيولنا سوابق ، وسهامنا خوارق ، وسيوفنا صواعق ، وقلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال.
فالحصون لدينا لا تمنع ، والعساكر لقتالنا لا تنفع ، ودعائكم علينا لا يسمع فإنكم أكلتم الحرام ، ولا تعفون عند الكلام ، وخنتم العهود والأيمان ، وفشا فيكم العقوق والعصيان ، فأبشروا بالمذلة والهوان ، ( فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) ، ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن قصد أماننا سلم.
فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم ، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن خالفتم هلكتم ، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم ، فقد حذَّر من أنذر ، وقد ثبت عندكم أن نحن الكفرة ، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة ، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة ، فكثيركم عندنا قليل ، وعزيزكم عندنا ذليل ، وبغير الأهنة لملوككم عندنا سبيل.
فلا تطيلوا الخطاب ، وأسرعوا برد الجواب ، قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترمى نحوكم شرارها ، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًا ، ولا كافيًا ولا حرزًا ، وتدهون منا بأعظم داهية ، وتصبح بلادكم منكم خالية ، فقد أنصفنا إذ راسلناكم ، وأيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم ، والسلام علينا وعليكم ، وعلى من أطاع الهدى ، وخشي عواقب الردى ، وأطاع الملك الأعلى )
السلوك لمعرفة دول الملوك، المقريزي، (1/142).
وكان رد قطز واضحًا جليًّا ، حيث ( أحضر قطز رسل التتار ، وكانوا أربعة ، فوسط واحدًا بسوق الخيل تحت قلعة الجبل ، ووسط آخر بظاهر باب زويلة ، ووسط الثالث ظاهر باب النصر ، ورسط الرابع بالريدانية ، وعلقت رءوسهم على باب زويلة ، وهذه الرءوس أول رؤوس علقت على باب زويلة من التتار ، وأبقى الملك المظفر على صبي من الرسل، وجعله من جملة مماليكه)
السلوك لمعرفة دول الملوك، المقريزي، (1/142).
اليوم الفصل:
سار السلطان قطز بجيوشه بعد أن هيأها للجهاد ، وبذل الأرواح في سبيل نصرة الله ، فوصل غزة ، ثم اتخذ طريق الساحل متجهًا نحو بحيرة طبرية ، والتقى بالمغول ، وكانوا تحت قيادة ( كتبغا ) في معركة فاصلة في صباح يوم الجمعة الموافق (25 رمضان 658هـ . 3 من سبتمبر 1260) عند عين جالوت من أرض فلسطين بين بيسان ونابلس ، وانتصر المسلمون انتصارًا هائلا بعد أن تردد النصر بين الفريقين.
وينقل ابن تغري عن شجاعة قطز في ذلك الموضع فيقول: ( فعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتفض طرف منه ، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته على رأسه إلى الأرض ، وصرخ بأعلى صوته: وا إسلاماه )
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري، (1/143).
وكان لهذه الصيحة فعل السحر ، فثبتت القلوب وصبر الرجال ، حتى جاء النصر وزهق الباطل.
وأعاد هذا الظفر الثقة في نفوس المسلمين بعدما ضاعت تحت سنابك الخيل ، وظن الناس أن المغول قوم لا يُقهرون ، وكانت نقطة تحول في الصراع المغولي الإسلامي ، فلأول مرة منذ وقت طويل يلقى المغول هزيمة ساحقة أوقفت زحفهم ، وأنقذت العالم الإسلامي والحضارة الإنسانية من خطر محقق.
وكان من شأن هذا النصر أن فَر المغول من دمشق وبقية بلاد الشام إلى ما وراء نهر الفرات ، ودخل السلطان قطز دمشق في آخر شهر رمضان وأقام بقلعتها ، وفي غضون أسابيع قليلة تمكن من السيطرة على سائر بلاد الشام ، وأقيمت له الخطبة في مساجد المدن الكبرى حتى حلب ومدن الفرات في أعالي بلاد الشام ، وتمكن من إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد ، وبعد أن اطمأن إلى ما فعل قرر العودة إلى مصر في (26 من شوال 658هـ . 4 من أكتوبر 1260م).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق