شامي عظيم
الجاه من بقايا بني أمية
قصة طويله
بس حلـــــــــــــــــوه اقروها وفهموها
:
حدثني منارة، خادم الخلفاء، قال: رفع إلى هارون الرشيد، أن
رجلاً
بدمشق، من بقايا بني أمية، عظيم الجاه واسع الدنيا، كثير
المال
والأملاك، مطاعاً في البلد، له جماعة أولاد ومماليك وموالي،
يركبون
الخيل، ويحملون السلام، ويغزون الروم، وأنه سمح جواد،
كثير البذل
والضيافة، وأنه لا يؤمن منه فتق لا يمكن رتقه، فعظم ذلك على الرشيد.
قال منارة:
وكان وقوف الرشيد على هذا وهو بالكوفة، في بعض
خرجاته إلى
الحج سنة ست وثمانين ومائة، وقد عاد من الموسم،
وقد بايع
للأمين ثم المأمون ثم المؤتمن.
فدعاني وهو
خال، فقال لي: دعوتك لأمر أهمني وقد منعني النوم،
فانظر كيف
تكون ? ثم قص علي خبر الأموي.
وقال: أخرج
الساعة، فقد أعددت لك الجمازات، وأزحت علتك في
الزاد
والنفقة والآلات، وضممت إليك مائة غلام، فاسلك البرية، وهذا
كتابي إلى
أمير دمشق، وهذه قيود، فادخل، وابدأ بالرجل، فإن
سمع وأطاع،
فقيده، وجئني به وإلا فتوكل به أنت ومن معك حتى
لا يهرب،
وأنفذ الكتاب إلى أمير دمشق، ليركب في جيشه فيقبض
عليه،
وتجيئني به، وقد أجلتك لذهابك ستاً، ولعودك ستاً، ويوماً
لمقامك،
وهذا محمل، تجعله- إذا قيدته- في شقه، وتجلس أنت
في الشق
الآخر، ولا تكل حفظه إلى غيرك، حتى تأتيني به في اليوم
الثالث عشر
من خروجك، وإذا دخلت داره فتفقدها، وجميع ما فيها،
وأهله،
وولده، وحاشيته، وغلمانه، وقدر النعمة، والحال، والمحل،
واحفظ ما
يقوله الرجل حرفاً بحرف، بجميع ألفاظه، منذ وقوع
طرفك عليه،
إلى أن تأتيني به، وإياك أن يشذ عليك شيء من أمره،
انطلق
مصاحباً.
قال منارة:
فودعته وخرجت، فركبنا الإبل، وطوينا المنازل، أسير
الليل
والنهار، ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين، والبول، وتنفيس
الناس
قليلاً.
إلى أن
دخلت دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة،
فكرهت
طرقها، فنمت بظاهر البلد، إلى أن فتح بابه في الغد،
فدخلت على
هيأتي، حتى أتيت باب دار الرجل، وعليه صفف
عظيمة،
وحاشية كثيرة، فلم أستأذن، ودخلت بغير أذن.
فلما رأى
القوم ذلك، سألوا بعض أصحابي عني، فقالوا لهم: هذا
منارة،
رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم، فأمسكوا.
فلما صرت
في صحن الدار، نزلت، ودخلت مجلساً، رأيت فيه قوماً
جلوساً،
فظننت أن الرجل فيهم، فقاموا إلي، ورحبوا بي، وأكرموني.
فقلت:
أفيكم فلان ? قالوا: لا، نحن أولاده، وهو في الحمام، فقلت:
استعجلوه.
فمضى بعضهم
يستعجله، وأنا أتفقد الدار، والأحوال، والحاشية،
فوجدت
الدار قد ماجت بأهلها موجاً شديداً.
فلم أزل
كذلك، حتى خرج الرجل، بعد أن أطال، واستربت به،
واشتد قلقي
وخوفي من أن يتوارى.
إلى أن
رأيت شيخاً قد أقبل بزي الحمام، يمشي في الصحن، وحوله
جماعة
كهول، وأحداث، وصبيان، هم أولاده، وغلمان كثيرة، فعلمت
أنه الرجل.
فجاء حتى
جلس، وسلم علي سلاماً خفيفاً، وسألني عن أمير
المؤمنين،
واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب.
فما انقضى
كلامه حتى جاؤوه بأطباق الفاكهة، فقال لي: تقدم يا
منارة فكل
معنا.
فقلت: ما
بي إلى ذلك حاجة.
فلم
يعاودني، وأقبل يأكل هو والحاضرون معه، ثم غسل يديه، ودعا
بالطعام،
فجاؤوه بمائدة حسنة جميلة، لم أر مثلها إلا للخليفة، فقال:
تقدم يا
منارة فساعدنا على الأكل، لا يزيد على أن يدعوني باسمي،
كما يدعوني
الخليفة.
فامتنعت،
فلم يعاودني، وأكل هو وأولاده، وكانوا تسعة، عددتهم،
وجماعة
كثيرة من أصحابه، وحاشيته، وجماعة من أولاده وأولاد
أولاده.
فتأملت
أكله في نفسه، فرأيته أكل الملوك، ووجدت جأشه رابطاً،
وذلك
الاضطراب الذي كان في داره قد سكن، ووجدته لا يرفع من
بين يديه
شيء، كان على المائدة، إلا وهب.
وقد كان
غلمانه، لما نزلت الدار، أخذوا جمالي، وجميع غلماني،
فعدلوا بهم
إلى دار له، فما أطاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي، ليس ين
يدي إلا
خمسة أو ستة غلمان وقوف على رأسي.
فقلت في
نفسي: هذا جبار عنيد، فإن امتنع علي من الشخوص، لم
أطق إشخاصه
بنفسي، ولا بمن معي، ولا حفظه إلى أن يلحقني أمير
البلد،
وجزعت جزعاً شديداً، ورابني منه استخفافه بي، وتهاونه
بأمري، وأن
يدعوني باسمي، وقلة اكتراثه بامتناعي من الأكل
والشرب،
ولا يسألني عما جئت له، ويأكل مطمئناً.
وأنا أفكر
في ذلك، إذ فرغ من طعامه، وغسل يديه، واستدعى
بالبخور،
فتبخر، وقام إلى الصلاة، فصلى الظهر صلاة حسنة، وأكثر من
الدعاء
والابتهال.
فلما انفتل
من محرابه، أقبل علي، وقال: ما أقدمك يا منارة ? فقلت:
أمر لك من
أمير المؤمنين، وأخرجت الكتاب، فدفعته إليه، ففضه،
وقرأه،
فلما استتم قراءته، دعا أولاده، وحاشيته، فاجتمعوا، فلم أشك
أنه يريد
أن يوقع بي.
فلما
تكاملوا، ابتدأ فحلف أيماناً غليظةً، فيها الطلاق، والعتاق،
والحج،
والصدقة، والوقف، والحبس، إن اجتمع اثنان منهم في
موضع، وأن
يتفرقوا، ويدخلوا منازلهم، ولا يظهر منهم أحد، إلى أن
ينكشف له
أمر يعمل عليه.
ثم قال:
هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه، ولست
أقيم بعد
نظري فيه لحظة واحدة.
وقال
لغلمانه، وأولاده: استوصوا بمن ورائي من الحرم خيراً، وما بي
حاجة أن
يصحبني غلام، هات أقيادك يا منارة.
فدعوت بها،
وكانت في سفط، فأحضر حداداً، ومد ساقيه، فقيدته،
وأمرت غلماني بحمله حتى حصل في المحمل، وركبت في
الشق
الآخر،
وسرت من وقتي، ولم ألق أمير البلد، ولا غيره.
وسرت
بالرجل، ليس معه أحد، إلى أن صرنا بظاهر دمشق، فابتدأ
يحدثني
بانبساط، حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة، فقال:
ترى هذا ? فقلت: نعم.
قال: هو
لي، وفيه من غرائب الأشجار كيت وكيت، ثم انتهى إلى
آخر، فقال
مثل ذلك، ثم انتهى إلى مزارع حسان، وقرى سرية،
فأقبل يقول: هذا لي، ويصف كل شيء فيها.
فاشتد غيظي
منه، فقلت له: هل علمت أني شديد التعجب منك ?
قال: ولم ?
قلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك، حتى
أرسل إليك
من انتزعك من بين أهلك، وولدك، ومالك، وأخرجك
عن جميع
حالك، وحيداً، فريداً، مقيداً، لا تدري ما يصير إليه أمرك،
ولا كيف
تكون، وأنت مع هذا، فارغ القلب، تصف بساتينك
وضياعك،
هذا وقد رأيتك، وقد جئت، وأنت لا تعلم فيم جئت،
وأنت ساكن
القلب، قليل الفكر، وقد كنت عندي شيخاً عاقلاً.
فقال
مجيباً لي: إنا لله وإنا إليه راجعون، أخطأت فراستي فيك يا
منارة،
قدرتك رجلاً كامل العقل، وأنك ما حللت من الخلفاء هذا
المحل، إلا
بعد أن عرفوك بذلك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام
العوام
وعقلهم، فالله المستعان.
أما قولك
في أمير المؤمنين، وإزعاجه لي من داري، وإخراجه إياي
إلى بابه
على هذه الصورة، فأنا على ثقة بالله عز وجل، الذي بيده
ناصية أمير
المؤمنين، فلا يملك معه لنفسه، ولا لغيره، ضراً ولا نفعاً، إلا
بإذن الله
ومشيئته، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد، فإذا
عرف أمير
المؤمنين أمري، وعلم سلامة جانبي، وصلاح ناحيتي، وأن
الأعداء
والحسدة، رموني عنده بما لست في طريقه، وتقولوا علي
الأباطيل
الكاذبة، لم يستحل دمي، وتحرج من أذاي وإزعاجي،
فردني
مكرماً، أو أقامني ببابه معظماً، وإن كان سبق في قضاء الله
تعالى، أنه
يبدر إلي ببادرة سوء، وقد حضر أجلي، وحان سفك دمي
على يده،
فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل السموات والأرض،
على صرف
ذلك عني، ما استطاعوا، فلم أتعجل الهم، وأتسلف الفكرة
والغم،
فيما قد فرغ الله منه، وأنا حسن الظن بالله الذي خلق ورزق،
وأحيا
وأمات وفطر وجبل، وأحسن وأجمل، وأين الصبر والرضا،
والتفويض
والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة وكنت أحسب أنك
تعرف هذا، فإذ
قد عرفت مبلغ فهمك، فإني لا أكلمك بكلمة، حتى
تفرق بيننا
حضرة أمير المؤمنين.
ثم أعرض
عني، فما سمعت له لفظة بغير القرآن والتسبيح، أو طلب
ماء أو
حاجة تجري مجراه، حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثالث عشر
بعد الظهر،
فإذا النجب قد استقبلتنا على فراسخ من الكوفة،
يتجسسون
خبري.
فلما رأوني
رجعوا بخبري إلى أمير المؤمنين، فانتهيت إلى الباب
آخر
النهار، فدخلت على الرشيد، فقبلت الأرض، ووقفت بين يديه.
فقال: هات
ما عندك، وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة.
فسقت إليه
الحديث من أوله، حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام
والغسل
والطهور والبخور، وما حدثت به نفسي من امتناعه مني،
والغضب
يظهر في وجهه ويتزايد، حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من
الصلاة،
وانفتاله، وسؤاله عن سبب مقدمي، ودفعي الكتاب إليه،
ومبادرته
إلى إحضار ولده وأسبابه، ويمينه أن لا يتبعه أحد منهم،
وصرفه
إياهم، ومد رجليه حتى قيدته، فما زال وجه الرشيد يسفر.
فلما
انتهيت إلى ما خاطبني به في المحمل، عند توبيخي إياه، قال:
صدق والله،
ما هذا إلا رجل محسود على النعمة، مكذوب عليه، ولقد
آذيناه،
ولعمري لقد أزعجناه، وروعناه، وروعنا أهله، فبادر بنزع
قيوده عنه،
وائتني به. فخرجت، فنزعت قيوده، وأدخلته على
الرشيد،
فما هو إلا أن رآه، حتى رأيت ماء الحياء يدور في وجه
الرشيد،
ودنا الأموي، فسلم بالخلافة، ووقف، فرد عليه الرشيد رداً
جميلاً،
وأمره بالجلوس، فجلس.
وأقبل عليه
الرشيد، ثم قال له: إنه بلغنا عنك فضل همة، وأمور،
أحببنا
معها أن نراك، ونسمع كلامك، ونحسن إليك، فاذكر حوائجك.
فأجاب
الأموي جواباً جميلاً، وشكر، ودعا ثم قال: أما حاجتي، فما
لي إلا
حاجة واحدة.
فقال:
مقضية، فما هي ? قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي،
وأهلي، وولدي.
فقال: نحن
نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك
ومعاشك،
فإن مثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا.
فقال: عمال
أمير المؤمنين منصفون، وقد استغنيت بعدله عن مسألته،
وأموري
منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل بلدي
بالعدل
الشامل في دولة أمير المؤمنين.
فقال له
الرشيد: انصرف محفوظاً إلى بلدك، واكتب إلينا بأمر إن
عرض لك،
فودعه الأموي.
فلما ولى
خارجاً، قال لي الرشيد: يا منارة، احمله من وقتك، وسر به
راجعاً كما
أتيت به، حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه،
فارجع
وخله.
ففعلت ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق