دروسٌ عشرة من همةنملة 1
يزداد عجبي كلما قرأت في قصة هذه النملة العجيبة كواحدة من مجتمع النمل المنظم البارع في الإتقان والعمل والنهضة والتقدم، -[نملة نبي الله سيلمان عليه السلام]- وهي تنصح قومها لمّا رأت ما سيأتي عليهم بالسوء -في ظنها وحساباتها- أو على الأقل سيعطلهم عن كثير من العمل والخير الذي يريدونه فكان ما كان من أمرها.
يقول الله تعالى في سورة النمل: [حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)].
لقد منح الله سليمان نعمة فهم كلمات ولغات أقوام كثيرة غير البشر، ومنهم النمل، فمرَّ ذات يوم على واد النمل أو قرية النمل، وكان يرافقه جيشا عرمرمًا قويًّا فتيًّا، فلمّا رأت نملة من بين واد النمل ما شغل بني جنسها وألهاهم عن أعمالهم وعن ذكرهم لربهم، وقيامهم بمهامهم، صرخت فيهم ونادت: [يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم] ثم علّلت لماذا؟ قائلةً: [لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون].
وفي هذا الخطاب النملي إلى النمل، وفي حركة النملة لإنقاذ مجتمعها دروس وعبر كثيرة، أركز على بعض منها في جوانب النهضة الثلاثة [العمل والإنتاج - التربية - الدعوة]، لعل من أهمها ما يأتي -وهو ما يمكن أن يستفيد منه المسلمون؛ كدروس إدارية وتنموية ونهضوية وفكرية وإيجابية، ولا حرج فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق وأجدر بها-:
أولا: إتقان العمل؛ إذا كان العمل قيمة فإن إتقانه أقيم وأروع من العمل ذاته، فلا قيمة للعمل بدون إتقان له، [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة: 105)]، هذه نملة قامت بإتقان عملها على وجه يرضي خالقها مراقبة إياه، محاولة الوصول بقومها إلى احترام الوقت وتقديره وإتقان المهام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه].
ثانيا: التيقظ والانتباه؛ الأصل ألا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين، ولكن للأسف كم من المسلمين اليوم من يُلْدَغُون مرارا وتكرارا من جهات وأعمال وأشخاص ولا يتيقظون. ورحم الله ابن القيم؛ حين جعل من أوائل درجات السالكين إلى الله: التيقظ. فأما نملتنا هذه فقد تيقظت وأيقظت وانتبهت ونبّهت، وهو شأن يجب أن يقتدى به؛ وأن يتعلمه المسلمون؛ خاصة في زمان العزة والكرامة والربيع العربي: لا يجوز أن يضحك على المسلمين مرة أخرى أو أن يتركوا زمام أمرهم لغيرهم يتسلط عليهم ويستولي على عقولهم، إنها دعوة لليقظة والتيقظ في كل شأن من شئون الحياة.
ثالثا: الهمَّة والإرادة الفتيّة؛ كثيرًا ما نشكو في الأعمال والوظائف والمهن من كسل بعض الموظفين عن أعمالهم، مما أخرنا كثيرا في الإنتاج حتى صرنا -وللأسف- نستورد كل شيء تقريبا؛ لدرجة أن كل شيء مكتوب عليه: صنع في الصين أو في غيرها، وكذلك في المجال التربوي والدعوي؛ ففي جانب التربية: مَن مِن الآباء والأمهات من يكون لديه همّة عالية وإرادة فتيّة في تعلم وسائل وطرق تربية الأبناء والخروج بهم من مأزق الشهوات والانحرافات، وكذا في جانب الدعوة: أين همّة الدعاة، الذين يشعرون بمسئوليتهم نحو دينهم وأمتهم من أن يطوروا من أنفسهم ويتواكبوا مع الأحداث بما يرفع عنهم الحرج أمام الله.
رابعا: تغليب المصلحة العامة على الخاصة؛ إن قائد القوم لا بد أن يكون أولهم في العمل بما يقول، فهذا أبو بكر يكشف عن بطنه لرسول الله يوما وقد ربط حجرًا على بطنه من الجوع، وكذلك عمر بن الخطاب، فكشف لهم رسول الله عن ثلاثة أحجار يربطها على بطنه، هذا هو القائد وهذا هو الحكيم في إدارة الأمور، وهذا هو الداعية في دعوته، ها هي نملة خافت على مجتمعها وغلبت المصلحة العامة على الخاصة -كان من الممكن أن تصمت ولا تهتم ولكنها ناصحة فتية وقوية بهمتها، ولها رسالة لا تتأخر عن خدمتها- فليتعلم القادة اليوم والسياسيون والزعماء بتغليب مصالح الأوطان العامة على مصالحهم الشخصية مهما كان حجمها ومقدارها؛ فالله رقيب وحسيب!!.
خامسًا: التضحية وإنكار الذات؛ لا يهمك أن ينسب إليك عمل ما أو أي فكرة كانت!!؛ المهم هل أقيم العمل واستفاد به الناس؟، هذا مبدأ تحركت به النملة في دعوتها وخطابها وبهمتها: ضحت بوقتها وجهدها وما أوتيت به من قوة؛ من أجل مجتمعها وأمتها، لم تهتم بذاتها كثيرا، حتى أن الإشارة جاءت في القرآن الكريم إشارة واضحة إلى أنها نملة، كما قال القرآن: [حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة...] نملة منكرة الذات والشخصية، المهم: المجتمع. فياليت قومي يعلمون بأهمية العمل للأمة والمجتمع والأوطان بدون اهتمام ذاتي بشأن رفعة الذات على الآخرين أو أن يشار إليه بالبنان، المهم أن الله يعلمه، كما كان الأولون: صدقوا الله فصدقهم الله!!.
هنا نقف، وقد بقي لنا خمس وسائل وقيم أخرى من همّة النملة، سنتحدث عنها في اللقاء القادم -بإذن الله تعالى- ونسأل الله تعالى أن يمنحنا همّة عالية لخدمة دينه ودعوته وأن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه وعباده المجاهدين في كل مكان.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة، إلى حينها أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق