السبت، 29 ديسمبر 2012

أتتك بِحَائنٍ رجلاه







أتتك بِحَائنٍ رجلاه 



  قصة مقتل عُبيد بن الأبرص على يد أبن النعمان 









"أتتْك بحائن رِجْلاه"، والمعنى حملتْه إلى هلاكه رِجْلاه، وقائله الشَّاعر عَبيد بن الأبرص، وقد قدم إلى المنذر بن النعمان يَطمع أن يُدْنِيه ويقرّبه ويصله بالهدايا والأُعْطيات، ولكنَّه وصل إليه في يوم بؤسِه.

وقد كان المنذر بن ماء السماء قد نادمه رجُلان من بني أسد، أحدُهُما خالد بن المضلل، والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة، فأغْضباه في بعض المنطق، فأمر بأن يُحْفَر لكل واحد حفيرة بظهر الحيرة، ثم يُجعلا في تابوتين، ويدفنا في الحفرتين، ففُعِل ذلك بهما، حتَّى إذا أصبح سأل عنهُما، فأُخْبِر بهلاكهما، فندم على ذلك وغمَّه، ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما، فأمر ببناء الغريين عليهما، فبُنِيا عليهما، وجعل لنفسه يومَين في السَّنة يجلس فيهما عند الغريين، يُسمي أحدهما يوم نعيم، والآخر يوم بؤس، فأول من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل شومًا؛ أي: سودًا، وأول مَن يطلع عليه يوم بؤْسِه يعطيه رأس ظربان أسود، ثم يأمر به، فيذبح ويغرى بدمه الغريان، فلبث بذلك برهةً من دهْرِه، يقتل في يوم بؤسه مَن يطلع عليه.


ثُمَّ إنَّ عَبيد بن الأبرص كان أوَّل مَن أشرف عليه في يوم بؤسِه، فقال: هلاَّ كان الذَّبح لغيرِك يا عبيد! فقال: أتتْك بحائنٍ رِجْلاه، فأرْسلها مثلاً، فقال له المنذر: أو أجلٌ بلَغ إِناه، فقال له المنذر: أنشِدْني، فقد كان شِعْرك يُعْجبني، فقال عَبيد: حال الجَريض دون القريض، وبلغ الحزام الطبيين، فأرْسلها مثلاً، فقال له النّعمان: أسْمِعني، فقال: المنايا على الحوايا، فأرْسلها مثلاً، فقال له آخَر: ما أشدَّ جزعَك مَن الموت! فقال: لا يرْحل رحلَك مَن ليس معك، فأرْسلها مثلاً، فقال له المنذر: قد أمللْتني، فأرحني قبل أن آمر بك، فقال عَبيد: من عزَّ بزَّ، فأرْسلها مثلاً، فقال المنذر: أنشدني قولك:

أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ

فقال عَبيد:
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عَبِيدُ = فَلَيْسَ يُبْدِي وَلا يُعِيدُ
عَنَّتْ لَهُ عَنَّةٌ نَكُودُ = وَحَانَ مِنْهَا لَهُ وُرُودُ


فقال له المُنذر: يا عَبيد، ويْحَك، أنشِدْني قبل أن أذبَحك، فقال عبيد:
وَاللَّهِ إِنْ مِتُّ لَمَا ضَرَّنِي = وَإِنْ أَعِشْ مَا عِشْتُ فِي وَاحِدَهْ

فقال المنذِر: إنَّه لا بدَّ من الموت، ولو أنَّ النعمان عرضَ لي في هذا اليَوم لذبحتُه، فاختر إن شئت الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت الوريد، فقال عَبيد: ثلاث خصال كسحابات عاد وارِدُها شرُّ وراد، وحاديها شرُّ حاد، ومعادها شر معاد، ولا خيْر فيه لمرتاد، وإن كنت لا مَحالة قاتلي فاسْقِني الخَمْر، حتَّى إذا ماتت مفاصلي، وذهلتْ لها ذواهلي، فشأنك وما تريد، فأمر المنذر بِحاجته من الخمر، حتى إذا أخذتْ منه، وطابت نفسه، دعا به المنذر، ليقتُله، فلمَّا مثل بين يديْه أنشأ يقول:
وَخَيَّرَنِي ذُو البُؤْسِ فِي يَوْمِ بُؤْسِهِ = خِصَالاً أَرَى فِي كُلِّهَا المَوْتَ قَدْ بَرَقْ
كَمَا خُيِّرَتْ عَادٌ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً = سَحَائِبَ مَا فِيهَا لِذِي خِيرَةٍ أَنَقْ
سَحَائِبَ رِيحٍ لَمْ تُوَكَّلْ بِبَلْدَةٍ = فَتَتْرُكَهَا إِلاَّ كَمَا لَيْلَةِ الطَّلَقْ

فأمر به المنذر، ففُصِد، فلمَّا مات غري بدمه الغريان".

=========
من جيِّد شعره:
الخَيْرُ يَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ = وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ

اسمه ونسبه:
قال أبو عمرو الشيباني: هو عَبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

شاعرٌ فحْل فصيح من شُعَراء الجاهليَّة، وجعله ابنُ سلام في الطبقة الرَّابعة من فحول الجاهليَّة، وقرن به طَرَفَة وعلْقمة بن عبدة وعدي بن زيد.

شاعِر ضائع الشِّعر أخبرنا أبو خليفة، عن محمَّد بن سلام، قال: عَبيد بن الأبرص قديم الذِّكْر، عظيم الشُّهرة، وشعره مضطرِب ذاهب، اشتهر قوله:
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ

هلك عَبيد كما هلك كثيرٌ من الشعراء على أعتاب الملوك و ظلمهم؛ {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34].

ليست هناك تعليقات: