الثلاثاء، 22 يناير 2013

مناظرة الشيخ الشامي مع أحمد بن أبي دؤاد




 مناظرة الشيخ الشامي مع  أحمد بن أبي دؤاد







و حكى المسعودي عن علي بن صالح قال : (( حضرت يوم من الأيام جلوس المهتدي للمظالم ، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي ، فيما يتظلم به إليه – ما استحسنته ، فأقبلت أرمُقه ببصري إذا نظر في القصص ، فإذا رفع طرفه إلي أطرقت ، فكأنه علِم ما في نفسي . فقال لي : يا صالح أحسب أن في نفسك شيئاً تحب أن تذكره . قال : قلت : نعم يا أمير المؤمنين . فأمسك ، فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح ، ونهض ، فجلست جلوساً طويلاً ، فقمت إليه ، وهو على حصير الصلاة ، فقال لي: أتحدثني بما في نفسك ، أم أحدثك ؟ فقلت : بل هو من أمير المؤمنين أحسن . فقال : كأني بك وقد استحسنت مِن مجلسنا . فقلت : أي خليفة خليفتنا ، إن لم يكن يقول بقول أبيه ، من القول بخلق القرآن ! فقال – أي الخليفة - : قد كنت على ذلك برهة من الدهر ، حتى أُقدِم عَلَى الواثق شيخ من أهل الفقه والحديث من ((أذنه)) من الثغر الشامي ، مقيداً طوالاً ، حسن الشيبة ، فسلم غير هائب ، ودعا فأوجز ، فرأيت الحياء منه في حماليق عينَي الواثق ، الرحمة عليه . فقال : يا شيخ ، أجب أحمد بن أبي دؤاد عما يسألك عنه . فقال : يا أمير المؤمنين ، أحمد يصغر ويضعف ، ويقل عند المناظرة . فرأيت الواثق ، وقد صار مكان الرحمة ، غضباً عليه . فقال : أبو عبد الله يصغر ويضعف عند مناظرتك ؟!
فقال : هوّن عليك يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي في كلامه ؟
فقال الواثق : قد أذنت لك .
فأقبل الشيخ على أحمد ، فقال : يا أحمد إلامَ دعوت الناس ؟
فقال أحمد : إلى القول بخلق القرآن .
فقال له الشيخ : مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها ، من القول بخلق القرآن أداخله في الدين ، فلا يكون الدين تامًّا إَّلا بالقول بها ؟
قال : نعم .
قال الشيخ : فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إليها أم تركهم ؟
قال : لا .
قال له : يعلمها أم لم يعلمها ؟
قال : عَلِمَهَا .
قال: فلم دعوت إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، وتركهم منه ؟
فأمسك.
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين هذه واحدة .
ثم قال له : أخبرني يا أحمد ، قال الله في كتابه العزيز : <<الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ديِنَكُمْ>> المائدة :3
، فقلت أنت : الدين لا يكون تاماًّ إلا بمقالتك بخلق القرآن ، فالله تعالى – عز وجل – صدق في تمامه وكماله ، أم أنت في نقصانك ؟!
فأمسك .
فقال الشيخ يا أمير المؤمنين ، هذه ثانية .
ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد ، قال الله عز وجل : <<يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ>> المائدة : 67
فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها ، فيما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أم لا ؟
فأمسك.
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، هذه الثالثة .
ثم قال بعد ساعة : خبرني يا أحمد ، لمّا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتك التي دعوت الناس إليها ، أَتَّسع له أن أمسك عنها أم لا ؟
قال أحمد : بل اتَّسع له ذلك .
فقال الشيخ : وكذلك لأبي بكر ، وكذلك لعمر ، وكذلك لعثمان ، وكذلك لعلي رحمة الله عليهم ؟
قال : نعم .
فصرف وجهه إلى الواثق ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إذا لم يَّسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا.
فقال الواثق : نعم ، لا وسع الله علينا ، إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، فلا وسع الله علينا.
ثم قال الواثق : اقطعوا قيوده ، فلما فُكَّت ، جاذب عليها .
فقال الواثق : دعوه ، ثم قال : يا شيخ لما جاذبت عليها ؟
قال : لأني عقَدتُّ في نيتي أن أجاذب عليها ، فإذا أخذتها أوصيت أن تُجعل بين يدي كفني ، ثم أقول يا ربي ، سل عبدك : لِمَ قيدني ظلماً ، وارتاع بي أهلي ؟
فبكى الواثق ، والشيخ ، كل من حضر .
ثم قال له : يا شيخ اجعلني في حلٍّ .
فقال : يا أمير المؤمنين ، ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حلٍّ ، إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقرابتك منه .
فتهلل وجه الواثق وسُرَّ .
ثم قال له : أَقم عندي آنس بك .
فقال له مكاني في الثغر أنفع ، وأنا شيخ كبير ، ولي حاجة .
قال : سل ما بدا لك .
قال : يأذن لي أمير المؤمنين ، في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم .
قال : قد أذنت لك . وأمر له بجائزة ، فلم يقبلها .
قال المهتدي : فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة ، وأحسب – أيضاً – أن الواثق رجع عنها )).

ليست هناك تعليقات: