غرائب القصص
هذه القصة رويت لي من أحد كبار السن , ولم أشأ ذكر أسمه لكوني لم أستأذنه في نشرها , ألا أنه واحد ممن سلط عليهم الضوء في المقابلات التي أجراها ألأخوان ابو عمر وابن عزاب.
يقول الراوي في مجمل ما ذكر, في العام 1343 هجريه كان أثنان من ثمالة يعملان مع الشريف , وتبعا لمقر عملهما كانت أسرتاهما تقيمان معهما داخل أسوار مدينة الطائف .
وعندما قدم جيش ألأخوان الى الطائف وتيقن الشريف بأن جيشه المدافع عن الحوية قد دب في صفوفه الأنهيار فضل ترك الطائف وألأنسحاب بسرعة الى جبال الهده .
لذلك غادر (الشريف) المدينة فجأة على مرأى ومسمع من الناس , ونادى مناديه بفتح أبوابها حالا (باب العباس , باب الريع , الباب الجديد , باب شبره) لأفساح المجال للراغبين في أخلاء عوائلهم منها قبل قدوم ألأخوان الوشيك من الحويه ووصولهم الى الطائف .
ويضيف الراوي , في لحظات كان يخيم فيها الرعب وهول الصدمه توجه الثماليان للبحث عن عائلتيهما داخل أسوار المدينة حيث وجد أحدهما عائلته المكونة من زوجة وابنين(أطفال) , بينما لم يجد ألثاني أسرته المكونة من زوجته وابن (طفل) , لكنه أثناء بحثه الحثيث عنهما تبلغ من ثقات بأنهما (الزوجه والطفل) قد شوهدا وهما يهرعان في الخروج مع الجموع الفارة من أحد أبواب المدينة .
في ذلك الجو المشحون بالهلع والمشبع بالخوف من المجهول في ظل أعراف كان من ثقافة أهلها أستباحة الدماء والأموال عندما تغير قبيلة على أخرى ,,, وبذلك الموقف الذي لا مكان فيه للتفكير, ولا لأضاعة الوقت ,, ولا لمقولة سوى أنج سعدا فقد هلك سعيد , لم يكن أمام الثمالي (الذي لم يجد أهله) من خيار سوى النفور مع النفير لاسيما وأن لديه سابق دراية بأن زوجته كانت تعرف الطريق ولديها المقدرة والأقتدار على سلوك المسالك والسبل والسير حتى الوصول الى أهلها وديارها في بلاد ثماله .
سار الثماليان ومعهما عائلة أحدهما سالكين الطريق المعتاد لبلاد ثمالة والأمل يحدوهما في اللحاق بعائلة الثمالي ألآخر(المفقوده والمكونة من زوجة وطفل) , ألا أنهم لم يجدوا لها أثرا ولا أدنى خبر.
ومضى الأسبوع وألأسبوعان والثمالي يبحث ويتلمس ألأخبار دون جدوى عن أبنه وزوجته , لقد صفا عليهما الماء وأصبح لا يدري أي أرض هي تلك ألتي أنشقت وابتلعتهما ؟, وبقي على تلك الحال الى أن عمم الأمان (من الأخوان) وترامت على مسامعه الأنباء بأن زوجته وأبنه لا زالا على قيد الحياة لم يمسهما أي سوء سوى ما ألم بهما من فجائع , خصوصا تلك التي شاهداها بمفردهما خارج المدينة في طريق هروبهما من الطائف الى ديارهما بمكان يقال له عفار .
لقد خرجت من أحد أبواب الطائف في أتجاه شهار , ثم سلكت مع صغيرها طرقا متعرجة وليست مألوفة لتنأ بنفسها وولدها عن ما كانت تتصوره في مخيلتها من أخطار داهمة وصروف ماحقة , لذلك تجنبت الطريق المعتاد الذي كان يظن زوجها أنها ستسلكه في فرارها , ثم واصلت المسير الى أن أدركها الليل وخيم عليها الظلام في أرض خالية (أو كما يقولون ليس بها شباب الضوء) في مكان يسمى شعب عفار من ديار بني سفيان .
ولكونها من بنات الباديه فقد كانت تعلم عن سابق خبرة أن سيرها مع أبنها الصغير ليلا لوحدهما تكتنفه كثير من المخاطر ليس أقلها خطرا أغراء قطعان السباع الضواري بأفتراسهما , لذلك لاذت بجناب وجدت فيه بقايا لآثار فريق (نزل) ربما رحل قريبا بسبب أنباء القتال الذي أصبح على مرمى حجر من الطائف, وكان به (الجناب) دبل ((غرفه مؤقته ومبسطه , صغيره ودائريه , عادة يكون متوسط قطرها أربعة أمتار وأرتفاعها متران تقريبا, مكبوس سقفها , يستعيض بها البادية الرحل عن بيوت الشعر والخيام)) دخلت بداخله وسدت بابه بجدار لتحتمي به ليلا من خطر السباع الى أن تلوح لها تباشير الضياء ويسفر عليها الصبح .
وما أن أرخى الليل سدوله في ليلة مقمرة ألا ولجلجت جوانب ألأودية بعواء السباع وأخذ صداها يتردد على جنباتها, لكنها كانت على قدر من ألأطمئنان من شرور السباع لأنها كانت تعلم أن الدبل الذي أحتمت به وسدت بابه سيحميها بعد الله من أخطارها .
وبعد أن مضى من الليل ثلثه تقريبا سمعت صوت حراك لا يبعد عنها سوى عشرات من ألأمتار , ثم مالبثت أن تبينت لها جهامة لرجل طويل القامة لا تكاد تميز أوصافه وقد أضرم النار وبدأ في علاج شاة علقها بشجرة الى جواره , وهنا دنت منها غموم وعاودتها هموم , وزادت هواجسها وخوفها خوفا على خوف , ولما لا وذلك المجهول صاحب التصرف المريب قد حط قريبا منها بخلاء موحش بعيدا عن ألأهل والعشيرة في ساعة من الليل ؟, ولما لا والأنسان قد أصبح في نظرها وحشا أشد وحشية من الوحوش ؟, أولم يكن خوفها من وحشية ألأنسان قبل سويعات فقط هو السبب الرئيس لهروبها ؟, أولم يكن ألأنسان هو أكثر ما كانت تخشاه على نفسها وولدها ؟ .
أنه ألأنسان فقط الذي بسبب الخوف منه غادرت بيتها في الطائف فارة وقلبها بين جناحي طائر من شدة الذعر والخوف سائرة على قدميها دونما زاد أو ماء أو راحلة لوحدها ودون حام سوى الله , ودون أنيس سوى طفل صغير مرة تحمله وأخرى تجره وراءها تسبب في تقيد حركتها وأنستها همومه وما ألم به من فجوع هم نفسها .
نعم , هكذا كانت مشاعرها , وكأن لسان حالها يردد :
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى @@@ وصوَّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
بقيت وجلة ساكنة في مكانها تراقب بحذر ما يدور من حولها وما يحصل على مقربة منها , تراقب ذلك الرجل المجهول المريب التصرف الذي لم يلحق به كما ظنت أي مرافقين له , والذي حالما أنتهى من العلاج حفر حفرة وجللها بالجمر المتقد والصفيح مما قلل من روعها , أذ أن تصرفه ذاك قد أعطاها مؤشرا على أنه لص قد سرق شاة ولاذ بها في الخلاء لكي ينداها بعيدا عن أعين الناس كما كان يحدث في عصرها من بعض لصوص المواشي .
وبعد أن مضى من الوقت ما يكفي لأحتماء الصفيح أغلق المنداة على اللحم وأضطجع الى جانبها , وبقي برهة يحرك بعض الأشياء من حوله ثم ساد المكان صمت مما دل على أن الرجل قد غلبه النعاس أثناء أضطجاعه في أنتظار أستواء اللحم الذي واراه في المنداه .
ولكنها مع ذلك كانت تلاحظ أزدياد عواء السباع التي ربما أستضرت من رائحة الدم و الفرث ومخلفات ذبح الشاه . وبعد مضي وقت لم يطل رأت مجموعة من السباع فيها الذئاب والضباع تطوف حول مخبئها ومكان مضجع الرجل , ثم لم تلبث كثير وقت حتى شاهدت أحد السباع الذي كان يبدو لها أنه ضبعا لضخامته ووجود عرف يعتلي رقبته وهو يقترب من مكان المنداة عدة مرات والرجل لا يبدي حراكا مما يدل على أنه يغط في نوم عميق , ثم ما لبث أن أن أقترب منه مرة أخرى وانقض على جزء من جسده لم يتراجع عنه للوراء الآ بمجموعة من أحشائه يحملها في فمه , ترافق ذلك مع صرخة واحدة من الرجل أختفت وراء جلضة السباع التي سرعان ما أنقضت عليه وحوطته من كل جانب تمسر أطرافه وتتخاطفت أعضاءه بعد أن علت في المكان أصوات أقتتالها على الفريسه وجلضة الضباع النهمة وأصواتها المزعجه .
هال المرأة وطفلها ما رأيا وكأن ما بهما من أهوال لا يكفيهما , وكاد أن يتوقف جريان الدماء في عروقهما من شدة الخوف , وبقيا متجمدين في مكانهما الى أن أسفر الصبح وأذا هي تشاهد ثلاثة من الرجال مقبلون وهم يتتبعون أثر (جرة) السارق الى أن وقفوا على مفرسه وتعالت أصواتهم , فعرفت من ملامحهم وأصواتهم أنهم من أهل الديار ومن بني سفيان تحديدا , فدفعت الجدار الذي كان يسد باب الدبل وأتجهت اليهم باكية تنتحب وطفلها ممسك بطرف ثوبها ولا يكاد يتمالك في خطوته, ثم عرفتهم بنفسها وقصت عليهم سبب مجيئها وما رأته في تلك الليلة المرعبة من أهوال , فطمأنوها وبكى بعضهم لحالها والحال الذي آل أليه اللص الذي عرفوا من بقايا وجهه أنه واحد من ربعهم .
ثم بادروا بأيصالها لحلالهم (بيوتهم) وطلبوا منها البقاء مع عوائلهم لبينما تشهد عند أقارب الميت بما رأته , وحتى تنجلي ألأمور ويأمن الناس من أخطار الحرب وانفلات زمام ألأمن , ثم استلحقوا بعضا من جماعتهم حيث قاموا بلحد ما تبقى من عظامه (الرجل الذي أفترسته السباع ) في أحدى الهضاب المجاوره.
وحالما صدر ألأمان من قبل ألأخوان عادوا بها الى الطائف وسلموها لأهلها .
ومن عجائب ألأقدار أن الثمالي الذي عاد سالما بأهله أجمعين قد توفي فيما بعد هو وكل بنيه وزوجته في جائحة وبائية نسأل الله لهم الرحمة والمغفره , ولم يخلف وراءه وارثا ألا أبنة واحدة رزق بها بعد تلك ألأحداث التي رويت لكم قصتها في الماضي , وبموتهم رحمهم الله جميعا أنتقل ماله ومزارعه مع أبنته لأناس لم تكن تربطه بهم أدنى قرابة في حياته , أما الذي فقد أبنه وزوجته فقد جمعه الله بهم وأمد في أعمارهم حينا من الدهر , وحفيده اليوم حي وله أحفاد من ذريتة المتزوجين , رحم الله أمواتهم رحمة واسعة وبارك في أحيائهم , وجمعنا بهم جميعا في مقعد صدق عند عزيز مقتدر , آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق