ذكر الملحمة الكبرى
وذلك أن بعد هلاك السفياني يُهَادِنون الروم صُلحًا أمنًا.
وفي بعض الروايات: أن مدة المهادنة تسع سنين، حتى يغزو المسلمون وهم عدوًا من وراءهم، فينتصرون ويغنمون وينصرفون حتى ينزلوا بمرج ذي تلوم، وهو موضع.
فيقول قائلٌ من الروم: غَلَبَ الصليب. ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب. فيتداولانها بينهم، فيثور المسلم إلى صليبهم وهو منهم غير بعيد، فيدقه، وتثور الروم إلى كاسر صليبهم فيقتلونه، وتثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العِصَابة من المسلمين بالشهادة، فَيُقْتلُونَ عن آخرهم.
فتقول الروم لملكهم: كفيناك شر العرب، وقتلنا أبطالها، فما تنتظر؟ فيجمعون في مدة تسعة أشهر مقدار حمل امرأة، فيأتون تحت ثمانين غاية.
وفي لفظ: فيسيرون بثمانين بندًا، والمعنى واحد.
تحت كل غاية أو بند اثنا عشر ألفًا، فينزلون بالأعماق أو بدابق، وهما موضعان قرب حلب وأنطاكية.
قال في "القاموس": العَمْق ويحرك: كُورةٌ بنواحي حلب. قال والأعماق: موضع بين حلب وأنطاكية مصب مياه كثيرة لا يجف إلَّا صيفًا، وهو العَمْقُ جُمِعَ بأجزائه. اهـ
فيخرج إليهم جَلَبٌ من أهل المدينة من خيار أهل المدينة يومئذ وهم الذين خرجوا مع المهدي، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا.
تَنبيه:
(الغاية): -بالغين المعجمة، والياء؛ آخر الحروف-: الراية.
ويُروى بالباء الموحدة، وهي: الأَجمةُ من القصب، شَبَّه كثرة رماحهم بها.
و(الأعماق)، بالعين المهملة.
و(الدَّابق): بوزن الطابع؛ بكسر الباء وفتحها.
و(سبوا)، وروي بضم السين والباء على بناء المجهول، وبفتحهما على بناء المعلوم.
والمعنى على الأول: الذين سبيتموهم منا، وخرجوا عن ديننا، وصاروا يقاتلوننا.
وعلى الثاني: الذين سبوا أولادنا ونساءنا.
فينهزم من المسلمين ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح ثلث لا يفتنون أبدًا.
وفي رواية نُعيم بن حماد، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا: «يكون بين المسلمين وبين الروم هدنة وصلح، حتى يقاتلوا معهم عدوهم فيقاسمونهم غنائمهم، ثم إن الروم يغزون مع المسلمين فارس، فيقتلون مُقَاتِلهم، ويسبون ذراريهم، فتقول الروم: قاسمونا الغنائم كما قاسمناكم. فيقاسمونهم الأموال وذراري الشرك، فتقول الروم: قاسمونا ما أصبتم من ذراريكم. فيقولون: لا نقاسمكم ذراري المسلمين أبدًا. فيقولون: غدرتم بنا. فترجع الروم إلى صاحب القسطنطينية فيقولون: إن العرب غدرت، ونحن أكثر منهم عددًا، وأتم منهم عدة، وأشد منهم قوة، فأمددنا نقاتلهم. فيقول: ما كُنت لأغدر بهم، ولقد كانت لهم الغلبة في طول الدهر علينا، فيأتون صاحب رومية فيخبرونه بذلك، فيوجه ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا في البحر، ويقول لهم صاحبهم: إذا أرسيتم بسواحل الشام فاحرقوا المراكب؛ لتقاتلوا عن أنفسكم. فيفعلون ذلك، ويأخذون أرض الشام كلها، برها وبحرها ما خلا مدينة دمشق والمُعْتَق، ويخربون بيت المقدس».
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: فقلت: كم تسع دمشق من المسلمين؟ فقال النبي - ﷺ -: «والذي نفسي بيده، لتتسعنَّ على من يأتيها من المسلمين؛ كما يتسع الرحم على الولد» ، قلت: وما المُعْتَق يا نبي الله؟ قال: «جبلٌ بأرض الشام من حمص على نهر يقال له: الأريط».
فيكون ذراري المسلمين في أعلى المعتق، والمسلمون على نهر الأريط يقاتلونهم صباحًا ومساء، فإذا أبصر صاحب القسطنطينية ذلك وجه في البر إلى قنسرين ثلاث مئة ألف، حتى تجيئهم مادة اليمن ألف ألف، أَلَّفَ الله بين قلوبهم بالإيمان، معهم أربعون ألفًا من حمير، حتى يأتوا بيت المقدس، فيقاتلون الروم فيهزمونهم، ويخرجونهم من جُنْدٍ إلى جند، حتى يأتوا قنسرين، تجيئهم مادة الموالي.
قلت: وما مادة الموالي يا رسول الله؟
قال: «هم عَتَاقتكُم، وهم منكم قوم يجيئون من قبل فارس، فيقولون: تعصبتم يا معشر العرب، لا يكون معكم أحدٌ من الفريقين، أتجتمع كلمتكم فنقاتل نزارًا يومًا والموالي يومًا؟ .
فيخرجون إلى المعتق وينزل المسلمون على نهر يقال له: كذا وكذا -يُعزى-، والمشركون على نهر يقال له: الرقية؛ وهو النهر الأسود، فيقاتلونهم، فيرفع الله نصره عن العسكرين، وينزل الصبر عليهما، حتى يقتل من المسلمين الثلث، ويفر الثلث، ويبقى الثلث.
فأما الذين يقتلون: فشهيدهم؛ كشهيد عشرة من شهداء بدر، ويشفع الواحد من شهداء بدر بسبعين شهيدًا، ويفترقون ثلاثة أثلاث:
ثلثٌ يلحقون بالروم، ويقولون: لو كان لله بهذا الدِّين من حاجة لنصرهم.
ويقول ثلث وهم مُسْلِمةُ العرب: مروا حيث لا ينالنا الروم أبدًا، مروا بنا إلى البدو وهم الأعراب، سيروا بنا إلى العراق واليمن والحجاز، حيث لا يُغاثُ الروم.
وأما الثلث: فيمشي بعضهم إلى بعض فيقولون: الله الله فدعوا عنكم العصبية، ولتجتمع كلمتكم، وقاتلوا عدوكم، فإنكم لن تنصروا ما تعصبتم، فيجتمعون جميعًا يتبايعون على أن يقاتلوا حتى يلحقوا بإخوانهم الذين قتلوا.
فإذا أبصر الروم إلى من تحول إليهم ومن قتل، ورأوا قلة المسلمين قام رُوميٌّ بين الصفين ومعه بند في أعلاه صليب، فينادي: غَلبَ الصليب. فيقوم رجلٌ من المسلمين بين الصفين ومعه بندٌ وينادي: بل غلب أنصار الله، بل غلب أنصار الله وأولياؤه. فغضب الله على الذين كفروا من قولهم: غَلبَ الصليب.
فينزل جبريل عليه السلام في مئتي ألف من الملائكة ويقول: يا ميكائيل؛ أغث عبادي. فينزل ميكائيل في مئتي ألف من الملائكة، ويُنْزِلُ الله نصره على المؤمنين، ويُنْزِل بأسه على الكافرين، فَيُقْتلون ويهزمون.
ويسير المسلمون في أرض الروم حتى يأتوا عمورة وعلى سورها خلقٌ كثير يقولون: ما رأينا شيئًا أكثر من الروم! كم قتلنا وهرقنا دم أكثرهم في هذه المدينة! فيقولون: آمنونا على أن نُؤَدي إليكم الجزية. فيأخذون الأمان لهم، وتجتمع الروم على أداء الجزية؛ تجتمع إليهم أطرافهم فيقولون: يا معشر العرب؛ إن الدجال قد خالفكم إلى ذراريكم -والخبر باطلٌ- فمن كان فيهم منكم فلا يُلقين شيئًا مما معه، فإنه قوةٌ لكم على ما بقي.
فيخرجون فيجدون الخبر باطلًا، وتَثِبُ الروم على من بقي في بلادهم من العرب، فيقتلونهم حتى لا يبقى بأرض الروم عربي ولا عربية ولا ولد عربي إلا قتل، فيبلغ ذلك المسلمين فيرجعون غَضَبًا لله، فيقتلون مقاتلهم، ويسبون ذراريهم، ويجمعون الأموال، ولا ينزلون على مدينة ولا حصن فوق ثلاثة أيام حتى يُفتح لهم.
وينزلون على الخليج حتى يفيض، فيصبح أهل القسطنطينية فيقولون: الصليب مدَّ لنا بحرنا، والمسيح ناصرنا. فيصبحون والخليج يابس، فتضرب فيه الأخبية، ويُحبس البحر عن القسطنطينية، فيقولون: الصليب مد لنا. ويُحيطُ المسلمون بمدينة الكفر ليلة الجمعة بالتحميد والتكبير والتهليل إلى الصباح، ليس فيهم نائم ولا جالس، فإذا طلع الفجر كَبّر المسلمون تكبيرةً واحدة، فيسقط ما بين البرجين، فتقول الروم: كنا نقاتل العرب، فالآن نقاتل ربنا، وقد هدم لهم مدينتنا، وخربها لهم. فيملؤون أيديهم، ويكيلون الذهب بالأترسة، ويقتسمون الذراري حتى يبلغ سهم الرجل ثلاث مئة عذراء، ويتمتعون بما في أيديهم ما شاء الله.
ثم يخرج الدجال حقًّا، ويَفْتَحُ الله القسطنطينية على يدي أقوام هم أولياء الله، يرفع الله عنهم الموت والمرض والسقم حتى ينزل عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام فيقاتلون معه الدجال».
أورد هذا الحديث بطوله السيوطي في "الجامع الكبير".
تَنبيه:
قوله: «يكون بين الروم والمسلمين هُدنة حتى يقاتلوا معهم عدوهم»: الضمير للروم؛ أي: حتى يقاتل المسلمون مع الروم عدو الروم، بدليل قولهم بعد هذا للمسلمين: قاسمونا الغنائم كما قاسمناكم. وفارس يكونون عدوًّا للمسلمين.
وهذا إما أن يقاتلوا المهدي وهم مسلمون؛ كما يقاتل بعض المسلمين بعضًا على الملك، وهو ظاهر قولهم: (لا نقاسمكم ذراري المسلمين)، أو أنهم يرجعون إلى الكفر، وهو ظاهر قوله: «فيقاسمونهم الأموال وذراري الشرك»، وهو المناسب للاستعانة بالروم عليهم، والروم كفارٌ؛ لعدم جواز الاستعانة بالكفار على المسلمين، وحينئذ فيكونون قد سبوا من أطراف بلاد المسلمين بعض الذراري.
ثم لما استولوا عليهم استردوا ذراريهم، وطلبت الروم منهم المقاسمة فيهم حيث صاروا في يد الكفار.
واستفيد من هذه الرواية: أن الروم تأتي من البحر، فلا يلزم من وصولهم دابق أو الأعماق -وهما بقرب حلب- استيلاؤهم على جميع بلاد المسلمين حتى يُظَنّ أن القسطنطينية التي الآن دار الإسلام دامت معمورة به إلى ساعة القيام ترجع دار الكفر والعياذ بالله؛ إذ المراد القسطنطينية الكبرى، كما سيأتي.
نعم؛ يُشْكل عليه قوله الآتي: «فإذا أبصر صاحب القسطنطينية ذلك وجه في البر ثلاث مئة ألف إلى قنسرين»، إلَّا أن يقال: إن صاحب القسطنطينية يُرسلهم مددًا للمسلمين، ولا ينافيه قوله الآتي: «فلما رأوا قِلّةَ المسلمين»؛ لأن ثلاث مئة ألف في جنب ثمانين غاية تحت كل غاية منها اثنا عشر ألفًا قليل، ولاسيما أن ذلك إنما يُقال بعد قتل من قتل، وتحول من يتحول إلى الروم منهم، أو يُقال: إن أهل القسطنطينية لما جاؤوا إلى المهدي تَخْلِفُهم الكفرة في بلادهم، فيأخذونها كما يأخذون أرض الشام، وهذا هو الظاهر.
قال في "القاموس": قسطنطينة، أو بزيادة ياء مشددة، وقد تضم الطاء الأولى منهما: دار مُلكِ الروم. وفتحها من أشراط الساعة، وتسمى بالرومية: بوزنطيا. وارتفاع سورها أحد وعشرون ذراعًا، وكنيستها مستطيلة، وبجانبها عمود عال من دور أربعة أبواع تقريبًا، وفي رأسه فرسٌ من نحاس وعليه فارس، وفي إحدى يديه كورة من ذهب، وقد فتح أصابع يده الأخرى مشيرًا بها وهو صورة قسطنطين؛ بانيها.
وقوله: «ما خلا دمشق»: يوافقه ما في الرواية الأخرى أن فسطاط المسلمين عند الملحمة الكبرى دمشق، وعند خروج الدجال بيت المقدس. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
وَالأُرَيط؛ قال في "القاموس": كَزُبير؛ موضع، وقد ذكر في الحديث أنه عند حمص، فيحتمل أن يكون النهر نفسه، أو موضعًا أضيف إليه النهر.
وقوله: «فشهيدهم كشهيد عشرة». . . إلى قوله: «بسبعين شهيدًا»، معناه: أن لكل شهيد شفاعة يوم القيامة، وأن لشهيد بدر شفاعة سبعين شهيدًا، وأن لهؤلاء الشهداء لكل واحد شفاعة عشرة من أهل بدر، فيكون لكل واحدٍ منهم شفاعة سبع مئة شهيد.
وهذا من قبيل قوله - ﷺ -: «للواحد منهم أجر خمسين منكم»، فلا يلزم منه تفضيلهم على أهل بدر مُطلقًا؛ لأن فضيلة الصحبة لا يُعادلها شيء.
وسيأتي أنَّ التحقيق أن جهات التفضيل مختلفة، فيمكن أن يُفضل هؤلاء من جهة وأولئك من جهة أخرى، أو لأن بلاء أحدهم كبلاء عشرة من أهل بدر؛ لكثرة من يقاتلونهم من الروم، ولبعد زمن النبوة عنهم.
ويُؤيده: أن الملائكة المنزلين مددًا لهم أكثر من البدرية بمئة أمثالهم، فإن المقاتلين ببدر من الملائكة كانوا ثلاثة آلاف، وفي ذلك اليوم يكونون ثلاث مئة ألف.
ولا ينافي هذا ما مر في سيرته أنه يُمد بثلاثة آلاف من الملائكة؛ لأن هذا في خصوص هذه الملحمة، وذلك في عموم خلافته.
وعَمُّور: وجدناه في ثلاث نُسخ بغير هاء التأنيث وياء النسب، والذي في "القاموس" وغيره: عَمُّورية بهاء، فَلعل فيه لغةً أو نقصًا من النسخ.
وقول الروم في المرة الأولى: «الصليب مَدّ لنا»؛ معناه: مَدّ الخليج لنا حيث فاض ماؤه وزاد. وفي الثانية معناه: إنكار القول الأول وتكذيب من قال ذلك منهم، فهو بحذف همزة الاستفهام إلى الإنكار.
يدل لذلك قولهم: «كنا نُقاتل العرب فالآن نقاتل ربنا» ... إلخ وتقدير الكلام: أن الله ناصرهم فلا نقدر على قتالهم، فيستسلمون للأسر، والله أعلم.
وقوله: «يابس ويحبس البحر»، أي: يُحبس الخليج.
وقد عبر عن هذه في الرواية الأخرى بفلق البحر، وهذه مُعجزةٌ للنبي - ﷺ - وتأييدٌ؛ لما قال بعض العلماء: من أنه لم يكن لنبي من الأنبياء مُعجزة إلَّا وللنبي - ﷺ - مثلها، والله أعلم بمراد رسوله - ﷺ -.
وبقية ألفاظ الحديث معناها واضح.
وفي رواية: يشترط المسلمون شُرطَةً للموت لا ترجع إلَّا غالبة فيقتتلون حتى يَحْجُزَ بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كُلٌّ غير غالب، ثم يشترط المسلمون شُرطَةً للموت لا ترجع إلَّا غالبة، فيرجعون غير غالبين إلى ثلاثة أيام، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام، فيجعل الله الدَّبرة على الكافرين، فيقتلون مقتلة لم يُر مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلّفهم حتى يَخر ميتًا، فيتعاد بنو الأب؛ كانوا مئة فلا يجدون بقي منهم إلَّا الرجل الواحد، فلا يُقسم مِيراث، ولا يُفرح بغنيمة، ويكون لخمسين امرأة قيمٌ واحد.
تَنبيْه: (الشُّرطة)؛ بالضم: طائفة من الجيش تَتَقدَّمُ للقتال. و (نَهدَ إليهم): نهض. و (الدَّبرة): الهزيمة. و (جنباتهم)؛ بجيم فنون مفتوحتين ثم موحدة؛ أي: بنواحيهم. و (لا يخلّفهم)؛ بتشديد اللام، لا يجعلهم خلفه؛ أي: لا يتجاوزهم حتى ينقطع عن الطيران ويموت من بُعْدِ مسافة المقتلة وكثرة القتلى، ويتبعونهم ضربًا وقتلًا حتى ينتهوا إلى قسطنطينية؛ أي: الكبرى.
قال في "عقد الدرر": لها سبعة أسوار، عرض السور السابع منها المحيط بالستة إحدى وعشرون ذراعًا، وفيه مئة باب، وعرض السور الأخير الذي يلي البلد عشرة أذرع، وهو على خليج يَصُبُّ في البحر الرومي، وهي متصلة ببلاد الروم والأندلس (1). انتهى
فيركز المهدي لواءه عند البحر ليتوضأ للفجر، فيتباعد الماء منه، فيتبعه حتى يجوز من تلك الناحية، ثم يركزه وينادي: أيها الناس؛ اعبروا فإن الله عز وجل فَلَقَ لكم البحر كما فلقه لبني إسرائيل. فيجوزون فيستقبلها، فيكبرون فتهتز حيطانها، ثم يكبرون فتهتز، فيسقط في الثالثة منها ما بين اثني عشر بُرجًا، فيفتحونها ويقيمون بها سنة حتى يبنون بها المساجد، ثم يدخلون مدينة أخرى، فبينما هم يقتسمون بها بالأترسة إذا بصارخ: إن الدجال خلفكم في ذراريكم بالشام. فيرجعون فإذا الأمر باطل، فالتارك نادم، والآخذ نادم، ثم ينشئون ألف سفينة، ويركبون فيها من عكا، وهم أهل المشرق والمغرب والشام والحجاز على قلب رجل واحد، فيسيرون إلى رومية.
وعن عبد الله بن بسر المازني أنه قال: يا بن أخي؛ لعلك تُدرك فتح القسطنطينية، فإياك إن أدركت فتحها أن تترك غنيمتك منها؛ فإن بين فتحها وبين خروج الدجال سبع سنين. رواه نُعيم بن حماد في الفتن.
ويُستخرج كنز بيت المقدس وحليته التي أخذها طاهر بن إسماعيل حين غزا بني إسرائيل فسباهم، وسبى حلي بيت المقدس، وأحرقها بالنيران، وحمل منها في البحر ألفًا وسبع مئة سفينة حتى أوردها رومية.
قال حذيفة - رضي الله عنه - فسمعت رسول الله - ﷺ - يقول: «ليستخرجن المهدي ذلك حتى يرده إلى بيت المقدس».
قال في "عقد الدرر": رومية: أم بلاد الروم، فكل من ملكها يقال له: الباب (2)، وهو الحاكم على دين النصرانية، بمنزلة الخليفة في المسلمين، وليس في بلاد المسلمين مثلها.
وقد ذكر المؤرخون في صفة رومية من العجائب ما لم يُسمع بأذني ذلك ببلد في العالم.
«وتقرب قسطنطينية منها، فيكبرون عليها أربع تكبيرات، فيسقط حائطها، فيقتلون ست مئة ألف، ويستخرجون منها حُلي بيت المقدس، والتابوت الذي فيه السكينة، ومائدة بني إسرائيل، ورضاضة الألواح، وحُلة آدم، وعصا موسى، ومنبر سليمان، وقفيزين من المَنِّ الذي أنزل الله عز وجل على بني إسرائيل، أشدُّ بياضًا من اللبن، ثم يأتون مدينة يقال لها: القاطع؛ طولها ألف ميل، وعرضها خمس مئة ميل، ولها ستون وثلاث مئة باب، يخرج من كل باب ألف مقاتل، وهي على البحر، لا يحمل جارية -يعني: سفينة- فيه».
قيل: يا رسول الله؛ ولِمَ لا يُحمل فيه جارية؟
قال: «لأنه ليس له قعر، وإنما يمرون من خلجان من ذلك البحر جعلها الله منافع لبني آدم لها قعور، فهي تحمل السفن، فيكبرون عليها أربع تكبيرات فيسقط حائطها، فيغنمون ما فيها، ثم يقيمون بها سبع سنين، ثم ينتقلون منها إلى بيت المقدس، فيبلغهم أن الدجال قد خرج في يهود أصبهان».
أخرجه أبو عمرو الداني في "سننه".
وفي رواية: «ثم يأتي مدينة يقال لها: القاطع، وهي على البحر الأخضر المحيط بالدنيا، ليس خلفه إلَّا أمر الله عز وجل، طولها ألف ميل، وعرضها خمس مئة ميل، فيكبرون ثلاث تكبيرات فتسقط حيطانها، فيقتلون بها ألف ألف مقاتل، ثم يتوجه المهدي منها إلى بيت المقدس بألف سفينة، فينزلون بشام فلسطين بين عكا وصور وعسقلان وغزة، فيخرجون ما بها معهم من الأموال، وينزل المهدي ببيت المقدس ويقيم بها حتى يخرج الدجال؛ أي: وفسطاط المسلمين في الملحمة العظمى دمشق، وعند خروج الدجال يكون ببيت المقدس، ويدخل الآفاق كلها فلا تبقى مدينةٌ دخلها ذو القرنين إلَّا دخلها وأصلحها، ولا يبقى جبارٌ إلَّا هلك».
وعنه - ﷺ -: «مَلكَ الدنيا مؤمنان وكافران، أما المؤمنان: فذو القرنين، وسليمان. وأما الكافران: فنمروذ، وبخت نصر ، وسيملكها خامسٌ من عترتي وهو المهدي».
وَروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، قال: «أصحاب الكهف أعوان المهدي».
قال العلماء: والحكمة في تأخيرهم إلى هذه المدة: ليحوزوا شرف الدخول في أمة محمد - ﷺ - إكرامًا لهم.
وورد أنَّ أول لواء يعقده المهدي يبعث به إلى التُّرك.
والظاهر أن هذه الفتوح تكون في مدة مهادنة الروم؛ لأنه بعد اشتغاله بهم لا يفرغ لغيرهم، أو أنه يَبْعَثُ البُعوث والسرايا، ونسبة دخول الآفاق إليه يكون مجازًا.
تَنبيْه: جاء من طريق أنه - ﷺ - قال: «الملحمة العُظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر».
وفي رواية: «سبع سنين».
قال أبو داود في "سننه": وهذه؛ يعني: رواية سبع سنين أصح، يعني: من رواية سبعة أشهر.
تَنبيه آخَر:
وردت في مدة مُلك المهدي روايات مختلفة؛ ففي بعض الروايات: يملك خمسًا أو سبعًا أو تسعًا بالترديد، وفي بعضها: سبعًا، وفي بعضها: تسعًا، وفي بعضها: إن قَلَّ فخمسا، وإن كَثُرَ فتسعًا، وفي بعضها: تسع عشرة سنة وأشهرًا، وفي بعضها: عشرين، وبعضها: أربعة وعشرين، وبعضها: ثلاثين، وبعضها: أربعين منها تسع سنين يُهادن فيها الروم.
قال ابن حجر في "القول المختصر": ويمكن الجمع على تقدير صحة الكل؛ بأن ملكه متفاوت الظهور والقوة، فيُحمل الأكثر على أنه باعتبار جَمعِ مُدّة المُلك، والأقل على غاية الظهور، والأوسط على الوسط. انتهى
قُلْتُ: ويدل على ما قاله وجوه:
الأول: أنه - ﷺ - بشر أمته، وخصوصًا أهل بيته ببشارات، وأن الله يعوضهم عن الظلم والجور قِسطًا وعَدلًا، واللائق بكرم الله أن تكون مدة العدل قدر ما ينسون فيه الظلم والفتن، والسبع والتسع أقل من ذلك.
الثاني: أنه يَفْتَحُ الدنيا كلها كما فتحها ذو القرنين وسليمان عليه السلام، ويدخل جميع الآفاق كما في بعض الروايات، ويبني المساجد في سائر البلدان، ويُحلي بيت المقدس.
ولا شك أن مدة التسع فما دونها لا يمكن أن يُساح فيها ربع أو خمس المعمورة سياحة، فضلًا عن الجهاد، وتجهيز العساكر، وترتيب الجيوش، وبناء المساجد، وغير ذلك (3).
الثالث: أنه ورد أن الأعمار تطول في زمنه كما مر في سيرته، وطولها فيه مُسْتَلزِمٌ لطوله، وإلَّا لا يكون طولها في زمنه، والتسع وما دونه ليست من الطول في شيء.
الرابع: أنه يُهادن الروم تسع سنين، ويقيم بقسطنطينية سنة، وبالقاطع سبعًا، ومدة المسير إليها مرتين والرجوع في أثنائه يكون سنين، ومدة قتاله مع السفياني، وأنه ينقض البيعة بعد ثلاث سنين، وفتحه للهند وسائر البلدان يكون سنين كثيرة؛ كما ورد كل ذلك في الروايات. وذلك أزيد من التسع بكثير.
وحينئذ فنقول: التحديد بالسبع باعتبار مدة استيلائه على جميع المعمورة.
فيكون معنى الحديث: أنه يملك سبعا مُلكًا كاملًا لجميع الأرض، وذلك بعد فتحه لمدينة القاطع، وبالتسع باعتبار مدة فتحه لقسطنطينية، وبتسعة عشر باعتبار مدة قتله للسفياني ودخول أهل الإسلام كلهم في طاعته.
فإنه يُهادن الروم تسع سنين، ومدة اشتغاله بحربهم وتملكه لهم يكون نحوًا من عشر سنين على طريقة جبر الكسر، وبأربع وعشرين باعتبار مدة خروجه إلى الشام ودخول السفياني في بيعته، وبثلاثين باعتبار خروجه بمكة واستيلائه على أرض الحجاز، وبأربعين باعتبار مدة ملكه في الجملة مشتملة على خروجه أولًا بالطائف وقتله لأمير مكة، وغيبته بعد ذلك وخروج الهاشمي بخراسان، وحمله السيف على عاتقه اثنين وسبعين شهرًا؛ كما في بعض الروايات.
وهذا الجمع أولى من إسقاط بعض الروايات، ولا شك أنه مُقدمٌ على الترجيح مهما أمكن، والله ورسوله أعلم بمرادهما.
على أنه لا مانع أن يكون التسع وما دونه بعد نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال؛ فإن عيسى عليه السلام لا يسلب المهدي ملكه؛ فإن الأئمة من قريش مادام من الناس اثنان، وعيسى عليه السلام يكون من أَخَصّ وزرائه وتابعًا له لا أميرًا عليه، ومن ثم يُصلي خلفه ويقتدي به؛ كما يدل عليه حديث جابر - رضي الله عنه - عند "مسلم": أن عيسى عليه السلام يقول له حين يتأخر في الصلاة: إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة.
ولا يرد عليه ما ورد في بعض الروايات: أنَّ المهدي يُصلي بهم تلك الصلاة، ثم يكون عيسى إمامًا بعده؛ لأنه لما ثبتت إمامته وإمارته جاز له أن يعينه إماما للصلاة لأنه أفضل، وأفضليته لا تستلزم خلافته؛ لجواز خلافة المفضول مع وجود الفاضل، سيما إذا كان الفاضل من غير قريش.
قال الشهاب القسطلاني في "شرح البخاري" قال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى عليه السلام إمامًا لوقع في نفس الإشكال، ولقيل: أتراه نائبًا أو مبتدئًا شرعيًا؟ فيصلي مأمومًا؛ لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله - ﷺ -: «لا نبي بعدي». انتهى
قال ابن حجر: ومعنى "تُسلب قريش ملكها"؛ أي: بعد نزول عيسى عليه السلام: أنه لا يبقى لها معه اختصاص بشيء دون مراجعته، فلا يُعارض ذلك خبر: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان». انتهى
وستأتي الإشارة إلى هذا في كلام الشيخ في "الفتوحات"، ولا شك أن بهذا الوجه يندفع كثير من الإشكالات من كون زمان كل منهما مَوصُوفًا بالبركة والأمن، وأنه يملأ الأرض قِسطًا، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير؛ لأن الزمان يكون واحدًا، فينسب إلى هذا تارة، وإلى هذا أخرى، وقد يُستأنسُ له بقوله - ﷺ -: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم حكمًا مُقسطا وإمامكم منكم»؛ فإنه لما احتمل أن يُفهم من قوله: «حكمًا مُقسطًا»: الإمامة دفعه بقوله: «وإمامكم منكم»، وظاهر أنه ليس المراد إمامة الصلاة؛ لأن المراد إثبات اتباع عيسى لشرعه، وكونه رعية خليفته ورجلًا من آحاد أمته - ﷺ -. وبالله التوفيق.
(1) هذا النقل يوضح أن القسطنطينية الكبرى هي روما عاصمة إيطاليا، فبلاد رومية هي إيطاليا وبها الفاتيكان مقر البابا مرجع معظم نصارى العالم. وسيأتي ما يوضح ذلك (ص 204).
(2) الظاهر من كلام السُّلَمي في "عقد الدرر" أن المراد برومية هي الفاتيكان، وأن من يطلق عليه الباب هو ما يسمى الآن: البابا، فهو الحاكم على دين معظم نصارى العالم كما هو معروف. والله أعلم.
(3) عدم الإمكانية في رأي المؤلف نظرًا للوسائل المتاحة في عصره، أما في عصرنا الحالي فوسائل النقل سريعة، وجهود المختصين في هذا المجال مستمرة لإيجاد وسائل أسرع من الصوت، وهي مشاهدةٌ معروفةٌ. فوقوع سياحة المعمورة في المدة المذكورة ليس مستحيلًا في زماننا وفي المستقبل، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق