حوار عمر بن عبدالعزيز
رضي الله عنه للقبر..
موعظة القبر..
روى ابن الجـوزي رحمه الله في سيرة عمر بن عبد العزيز عن أبي فروة قال:
" خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني أمية، فلما صلى عليها ودفنت قال للناس:
قوموا؛ ثم توارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه،
وانتفخت أوداجه.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد أبطأت فما الذي حبسك؟
قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني أبي، فسلمتُ فلم يردوا السلام،
فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال:
يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأحبة؟
قلت: ما لقيت الأحبة؟
قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب
فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت العينان؟
قلت: وما لقيت العينان؟ قال: قدعت المقلتان، وأكلت الحدقتان؛
فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال:
يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأبدان؟
قلت: وما لقيت الأبدان؟
قال: قطعت الكفَّان من الرُّسغين، وقطعت الرسغان من الذراعين،
وقطعت الذراعان من المرفقين، وقطعت الكتفان من الجنبين، وقطعت الجنبان من
الصلب، وقطع الصلب من الوركين، وقطعت الوركان من الفخذين، والفخذان من
الركبتين، وقطعت الركبتان من الساقين، وقطعت الساقان من القدمين؛
فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال:
يا عمر، عليك بأكفان لا تبلى؛
قلت: وما الأكفان التي لا تبلى؟
قال: اتقاء الله والعمل بطاعته؛ ثم بكى عمر، وقال:
ألا وإن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير
وشابها يهرم، وحيها يموت
فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها، أين سكانها
الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها؟
أقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي
إنهم والله كانوا في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعها
ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم
كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة
بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون
فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً
مر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما
بقي من فقره
وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون
وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون
وعن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟
امحت الألوان، وأكلت اللحمان
وعفرت الوجوه، وقبحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء
فأين حجالهم وقبابهم؟ وأين خدمهم، وعبيدهم، وجمعهم، ومكنوزهم؟
والله ما زادوهم فراشاً، ولا وضعوا هنالك متكأ،
ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً
أليسوا في منازل الخلوات والفلوات؟
أليس عليهم الليل والنهار سواء؟
أليس هم في مدلهمة ظلماء،
قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة
فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة
وأوصالهم متمزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً
ودبّت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم،
ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً
قد فارقوا الحدائق، وصاروا بعد السعة في المضايق
قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أبناؤهم،
وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم
فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناظر فيه، المتنعم بلذته.
يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا؟
هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك؟
أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟
وأين ثمرك الحاضر ينعه؟
وأين رقاق ثيابك؟
وأين طيبك وأين بخورك؟
وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟
أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً،
ويتقلب في سكرات الموت وغمرته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر
والقضاء، جاءه من الأجل ما لا يمتنع منه
هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله
يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر راجعاً عنه
ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى؟
يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟
يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى
يا ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا؟
وما يأتيني به من رسالة ربي.
ثم تمثل بهذه الأبيات:
تسرُّ بما يفني وتشغل بالصبى ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور لهو و غفلة .... و ليلك نوم والردى لـك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبـه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائـم
ثم انصرف، فما بقي بعد ذلك إلا جمعة". أي أسبوعاً فمات رحمه الله ورضي عنه..
اللهم إنا نسألك أن تقيل العثرات، وتغفر الزلات، وتبدلها حسنات، وتستعملنا في
الطاعات، وتشغلنا بما يهمنا في الحياة وبعد الممات، وأن تطيبنا للممات، وأن تستر
الخطيئات، وأن تغفر للآبـاء والأمهـات، وأن تصلح الأزواج والذريات، إنك ولي ذلك
والقادر عليه، لا رب سواك، ولا إله غيرك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق