هادم اللذات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن القلوب تقسو وتغفل، ولذلك لا بد من تعاهدها بالوعظ والتذكير، والله عز وجل قد جعل أموراً كثيرة لنتعظ ولنتذكر، منها المعنوية ومنها الحسية، ومن هذه الأمور؛ هادم اللذات، ومفرق الجماعات، إنه الموت!!.
فهو حق لا ريب فيه، ولا أحد من الناس ينكره، وكيف ينكره؟!، وهو يرى مصارع قومه، وأفراد أسرته، ويسمع ويقرأ ما يحل بغيره من الويلات والنكبات، يقول جل ذكره: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: 185]، ويقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: 26-27]. ولكن وللأسف الشديد، نرى كثيراً من إخواننا من قد ينسى أو يتناسى هذه الحقيقة، وكأنَّ الموت لا يعنيه، أو أنه مخلد لا يموت، ولم يسأل نفسه أين آباؤه وأجداده؟ وأين بعض أبنائه وأزواجه، وأين أقاربه وجيرانه وخلانه؟! بل وأين خير من وطئ الثرى، محمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يقرأ قول الملك العلاَّم، وهو ينعي حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر: 30].
أخي الكريم! إن من طبيعة الموت أنه يأتي بغتة، فهو لا يميز بين صغير وكبير، أو صحيح وسقيم، أو غني وفقير، أو رئيس ومرؤوس، أو عالم وجاهل، أو بر وفاجر، وإنما كما قال رب العزة والجلال: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[نوح: 4]، قال القرطبي رحمه الله: "وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك"1. وقال العلامة الواعظ أبو إسحاق الألبيري مذكراً ابنه أبا بكر بهذه الحقيقة:
ولا تقل الصبا فيه امتهال *** وفكر كم صغير قد دفنتا
ولذلك فقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذكر الموت، والإكثار منه؛ فعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) قلنا: يا رسول الله! وما هادم اللذات؟ قال: ((الموت))2. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بقوم يضحكون ويمزحون، فقال: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات))3. وقال الغزالي: أي نغصوا بذكره لذاتكم حتى ينقطع ركونكم إليها فتقبلوا على الله. وقال التميمي: شيئان قطعا عني لذة النوم ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل. وقال الإمام القرطبي رحمه الله: "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات)) كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات))، مع قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: 185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه"4. وقال الشاعر:
لا تأمن الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسٍ *** ولو تمتعتَ بالحُجْابِ والحرسِ
واعلمْ بأن سهامَ الموتِ نافذةٌ *** في كل مدرَّرعٍ منا ومترسِ
ما بالُ دنياكَ ترضى أن تدنسهُ *** وثوبك الدهرَ مغسولٌ من الدنسِ؟
ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ مسالكَها *** إِن السفينةَ لا تجري على اليَبَس
ومع أنَّ طبيعة الموت أنه يأتي بغتة، ولا يُفرَّقُ بين أحد؛ فإنه مع ذلك له رسل يرسلها قبل مجيئه، فقد ورد في بعض الأخبار أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: أما لك رسول تقدمه بين يديك، ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رسل كثيرة: من الإعلال، والأمراض، والشيب، والهموم، وتغير السمع والبصر. وفي صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة))5. وأعظم الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء: 15]. وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء: 165]. وقال سبحانه: {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}[فاطر: 37]. قيل: هو القرآن، وقيل: الرسل، وقال ابن عباس: هو الشيب.
وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد عدة، منها: أنه ما ذكر في قليل إلا كثَّره، ولا في كثير إلا وسَّعه. وقال الدقاق: "من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة"6.
وفي الأخير أقول إن لم تذكر الموت، وتتعظ به، ولم ينفعك وعظ، فموتك خير من حياتك، قال الشاعر:
فما لك ليس يعمل فيك وعظ *** ولا زجر كأنك من جماد
ستندم إن رحلت بغير زاد *** وتشقى إذ يناديك المنادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا *** فإن صلاحها عين الفساد
ولا تفرح بمال تقتنيه *** فإنك فيه معكوس المراد
وتب مما جنيت وأنت حي *** وكن متنبها قبل الرقاد
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد؟!
اللهم تجاوز عن زلاتنا، واغفر خطيئاتنا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
1 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 7).
2 أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/355).
3 رواه البيهقي في الشعب (826)، وحسنه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب (3334).
4 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (1/6).
5 رواه البخاري (6056).
6 شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور (ص: 27).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق