إليكم يا شباب الإسلام
الشباب والحرص على طلب العلم النافع والفقه في الدين
| ||||||||
فضيلة طلب العلم:
ومن أهمِّ ما ينبغي عليكم أيها الشباب:
الحرص على طلب الفقه والعلم النافع؛ لأنَّ طلب العلم يُصحِّح أخطاءنا في فهم المنهج، ويبصرنا بالطريق، ويُرشدنا للصَّواب، ويجنبنا العثرات والعقبات، ويدلنا على سعادةِ الدَّارين، وحسبكم بشرف العلم وأهله فضيلة ومكانة.
إنَّ طلب العلم أيها الشباب فريضة واجبة على كل مسلم، كل على قدر استطاعته وضرورته؛ لأَنَّ الله - تعالى - افترض علينا في شريعة الإسلام أركانًا وواجبات، وسننًا ومُستحبات، ولا تتم هذه الفرائض والواجبات إلا بالتعبُّد الصحيح بها، والقيام بحقها، ولا يكون ذلك إلا بطلب العلم بها، ومعرفة شروطها وأركانها، وتمييز الواجبات والشرائع عن بعضها.
كما أنَّ الإسلامَ جاء بعمارة الدنيا لإقامة الدين؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61]، ولا يكون ذلك أيضًا إلا بالعلم وطلبه.
ونحن إذا تأمَّلنا آيات القرآن، وجدنا أنَّ اللهَ - تعالى - في أول ما أنزل على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمرنا بطلب العلم النافع بمعناه الواسع الشامل للعلم الشرعي وغيره ما كان نافعًا؛ فقال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]، وقال تعالى لنبيه ورسوله: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
كما أنَّ الله - تعالى - فرَّق بين العالم وغيره، وجعل لكل واحد مكانة تليق به، وفضل العالم على غيره؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].
كما أنَّ الله - تعالى - جعل لطلبة العلم وأهله درجاتٍ عاليات عنده - سبحانه - فقال: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، وصدق القائل:
العلوم الشرعيَّة أفضل العُلُوم على الإطلاق:
لكن يَجِب عليكم أنْ تعلموا أنَّ أفضلَ العلوم على الإطلاق العلوم الشرعية، المتعلِّقة بمسائلِ الدين من الإيمان والتوحيد، والفقه في العبادة والمعاملة، والأخلاق والسلوك، وأمَّا سواها فمطلوبة ومُستحبة ما دَلَّت على عبادة الله - تعالى - ومعرفة آياته وقدرته، وما كان المسلمون في حاجة ماسَّة إليها؛ قال الله - تعالى -: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 49]، وقال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
وقد ثبت عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الصحيحين في حديث معاوية - رضي الله عنه - أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن يُرد اللهُ به خيرًا، يُفقهه في الدين)).
وقال الإمام الذهبي - رحمه الله -:
وقد اصطلح أهل العلم على تسمية مثل هذه العلوم، فيقال: علم التفسير، وعلم الحديث، وعلم الفقه والفرائض، وعلم العقيدة والتوحيد، وهكذا.
الفقه في الدين وأهميته وفضيلته:
كما يَجب عليكم أيها الشباب أنْ تعلموا أنَّ طلب الفقه في مسائل الدين من الأهمية والفضيلة بمكان؛ لأنَّ الله - تعالى - بَيَّنَ فضيلة أهله في كتابه؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
وحسبكم - يا شباب الإسلام - بهذه الآية شرفًا في بيانِ فضيلة العلم والفقه في الدين، وقد قال فيها الإمام الشوكاني - رحمه الله -: "والمعنى: أنَّ الطائفةَ من هذه الفرقة تَخرج إلى الغزو، ومن بَقِيَ من الفرقة يقفون لطلبِ العلم، ويُعلِّمون الغُزاةَ إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يَجدون فيه مَن يتعلمون منه؛ ليأخذوا عنه الفقه في الدين، وينذروا قومهم وقتَ رجوعهم إليهم.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقلٌّ بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم، والتفقه في الدين، جعله الله - سبحانه - متصلاً بما دلَّ على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين: الأوَّل: سفر الجهاد، والثاني: السفر لطلب العلم.
ولا شكَّ أن وجوب الخروج لطلب العلم إنَّما يكون إذا لم يجد الطالب مَن يتعلم منه في الحضر من غير سفر، والفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها من لُغَةٍ ونحو، وصرف وبيان وأصول"[1].
وكذلك قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره: "هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأَنَّ المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقيم لا ينفر، فيتركوه وحْدَه، ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ ﴾ بعدما علموا أنَّ النفير لا يَسَع جميعهم ﴿ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ﴾، وتبقى بقيتها مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليتحملوا عنه الدين ويتفَقَّهوا، فإذا رجع النافرون إليهم، أخبروهم بما سَمِعوه وعلموه، وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنَّه على الكفاية دون الأعيان، ويدل عليه أيضًا قوله - تعالى -: ﴿ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، فدخل في هذا مَن لا يعلم الكتاب والسنن"[2].
وكذلك قال السعدي - رحمه الله تعالى -: "﴿ لِيَتَفَقَّهُوا ﴾؛ أي: القاعدون ﴿ فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانِيَه، ويفقهوا أسرارَه، وليعلِّموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصًا الفقه في الدين، وأنَّه أهم الأمور، وأن من تعلم علمًا فعليه نشرُه وبَثُّه في العباد، ونصيحتهم فيه، فإنَّ انتشارَ العلم عن العالم من بركته وأجره، الذي يُنَمَّى له"[3].
وكذلك لو تأمَّلنا السنةَ النبوية لَوَجدنا أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بَيَّن فضيلة طلب العلم والفقه في الدين وضرورته، فقد روى الشيخان عن معاوية - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((مَن يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنَّما أنا قاسم والله يعطي)).
وكذلك جاء بسند حسن وصححه الألباني عند ابن ماجه عن معاوية بن أبي سفيان يحدث عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((الخير عادة، والشَّرُّ لجاجة، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
ولا يفوتنا أن نذكر دعوةَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لابن عباس - رضي الله عنهما - بالفقه في الدين؛ حيث قال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل)).
فعن عبدالله بن عباس قال: "أصاب رجلاً جرحٌ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم احتلم، فأُمِرَ بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قتلوه قتلهم الله، ألَم يكن شفاء العِيِّ السؤال))"؛ حديث حسن، [رواه أبو داود وحسنه الألباني].
وجاء في الحديث: ((مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سَهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))؛ حديث حسن، [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم، فقولوا لهم: مرحبًا بوصية رسول الله وَأَقْنُوهم - علموهم))، وفي رواية أخرى: ((وأفتوهم))"؛ [أخرجه ابن ماجه بسند حسن].
وقد روى الشيخان عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ مَثَلَ ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمَثَلِ غَيْثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنَّما هي قيعان، لا تُمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقِهَ في دين الله، ونَفَعه الله بما بعثني الله به، فعلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به)).
فمِن هذه النُّصوص وغيرها نُدرك فضيلةَ طلب العلم والتفقه في مسائل الشريعة، وضرورة ذلك، وقد قال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - لكميل بن زياد: "يا كميلُ، العلمُ خَيْرٌ من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق"، وقال:
وقال أيضًا - رضي الله عنه -: "قيمة كلِّ امرئ ما يحسنه".
المنهجية في طلب العلم وآدابه:
وهذه مسألةٌ مُهمة وجليلة؛ لأَنَّنا كثيرًا ما نرى بعضَ الشباب يتخبَّطُ في هذا الطريق، ولا يُحسن التعامُل معه، فيكون حظُّه من الفقه قليلاً وضعيفًا، ويكون طلبه له أقلَّ وأضعف، فلا يُحَصِّل منه الكثير، وإن حَصَّل شيئًا فقد لا تكون لديه مَلَكَة العلم والتأصيل الفقهي، فنجد عنده مسائل كثيرة، لكنَّه لا يستطيع جمعها تحت أي قاعدة علمية، أو رابطٍ يربط بينها، وهذه مُشكلة تُواجِه الكثير من شبابنا اليوم، ممن لا يُجالسون أهلَ العلم والفقه، أو ينصرفون قليلاً عن الطلب، فتضعف هِمَمُهم، وتفتر عزائمُهم، ويقل طلبهم واطلاعهم.
وهنا نقول: إنَّ طلبَ العلم والفقه في الدين أمرٌ جليل، ويَحتاج إلى صبر وجِدٍّ ومُعاناة في أول طلبه، إلا أنه سُرعان ما يستقيم مع صاحبه إذا أحسن الطلب، وضبط القواعد والأصول، وجَدَّ واجتهد، ودَوَّن وحَفِظ، وفَرَّع وقَسَّم.
وحتى يتمكنَ الشبابُ المسلم من تَحصيل العلم، فعليهم بعدة أمور:
الأول: عُلُوُّ الهمة في طلب الفقه وتَحصيله، مع الإخلاص لله - تعالى - في طلبه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5].
وفي الحديث الصحيح المشهور عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ [رواه الشيخان].
وروى ابنُ ماجه في سننه بسند حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم -: ((مَن تعلم العلم؛ ليباهي به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوهَ الناس، أدخله الله جهنم)).
الثاني: أن يَنويَ بطلبه رَفْعَ الجهالة عن نفسه أولاً، ثُمَّ بعد تَحصيله يقوم بتعليم وإرشاد المسلمين وتوجيههم لما فيه الخير والرشاد، وكان عبدالله بن المبارك يقول: "أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر".
وقيل للإمام أحمد بن حنبل: "إنَّ قومًا يكتبون الحديث، ولا يُرى أثره عليهم، وليس لهم وقار. فقال: يؤولون في الحديث إلى خير".
وعن الضحاك بن مزاحم قال: "أول باب العلم: الصمت، والثاني: استماعه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه".
الثالث: التفرغ للطلب والتعلُّم؛ لأَنَّ صاحِبَ الأعمال والشواغل لن يستطيعَ التفقه وحضور مجالس العلماء، والقراءة والاطلاع والبحث، إلاَّ إذا فَرَّغَ شيئًا من وقته وجهده، وإلا ما استطاع تحصيل أي شيء من العلم والفقه، وقد قيل: أعطِ العلم كُلَّكَ، يُعطِك بعضه.
الرابع: التلَقِّي الصحيح للعلم، وهذا إنَّما يكون بالأخْذ عن الشيوخ والعلماء، وليس من بطون الكتب بدون شيخ أو معلم، أو أصول أو قواعد، فإن عجز عن ذلك، ولم يستطع الوصول إلى العلماء ولا الطلب عليهم، فعليه بشروحهم الصوتية المسجلة، وكتبهم المدونة معها واستماعها، مع ضبط ما يسمعه بحُسن السمع والفهم والإصغاء، فإذا استشكل عليه أمرٌ، سأل عنه وعرف جوابه، حتى لا تَزُولَ قدمُه من حيث لا يدْري.
ولهذا قال العلماء: لا تأخذ العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي، يعنى: لا تقرأ القرآن على مَن قرأ مِنَ المصحف دون شيخ مُلَقّن، ولا الحديث والفقه وغيره على مَن أخذ ذلك من الصُّحف، دون معلّم ومؤصل له.
قال أبو حيان:
الخامس: التدرُّج في طلب العلم، والحرص على المنهجية؛ لأَنَّ العِلْمَ لا يُؤخذ جُملةً واحدة، إنَّما يؤخذ بالتتابُع، وإلاَّ ما بقي منه شيء يذكر أو يعمل به، فمن أراد طلب العلم، فليأخذه خطوة وراء خطوة، وعلمًا بعد علم، فينتقل من علم إلى علم، ومن فن إلى فن، حتى تفتح له الأبواب، وتيسر له الأسباب.
أما القرآن: فليكن أولُ ما يبدأ به طالب العلم كتابَ الله - تعالى - فيحفظ القرآن، ويتعلق به، ويتلوه حَقَّ تلاوته، ويعمل بحلاله وحرامه، ويعمل بِمُحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويتعلم أحكامَ تَجويده وترتيله، وذلك على أيدي أهلِ هذا العلم من القُرَّاء والحفاظ المُتقنين له، كما يأخذ كتابًا في مَعرفة ما أشْكَل عليه من ألفاظ وكلمات؛ كـ"زبدة التفسير"؛ للأشقر، ثم يتوسع قليلاً في التفسير، فيبدأ بتفسير السعدي "تيسير الكريم المنان"، ثم بعده "تفسير ابن كثير"، فـ"فتح القدير"للشوكاني، و"أضواء البيان" للشنقيطي، ثم يقرأ في التفاسير المطولة كابن جرير الطبري.
أما علوم القرآن: فيبدأ بـ"أصول التفسير" لابن عثيمين، ثم "مقدمة في أصول التفسير" لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، ثم "مباحث في علوم القرآن" للقطان، كما يستعين بكتب الشيخ مساعد الطيار، فإنَّها جيدة في بابها، ثم يتوسع شيئًا فشيئًا، فيقرأ "الإتقان" للسيوطي، وهو من أشمل الكتب في علوم القرآن، والمعتمد عليه إلى اليوم، وكذلك "البرهان" للزركشي، و"مناهل العرفان" للزرقاني.
أما في الحديث وعلومه: فمن الممكن أن يبدأَ بالأربعين النووية، ثُمَّ "رياض الصالحين"، ثم "بلوغ المرام"، ثم الصحيحين والكتب الستة، ثم يطالع شروحَ الحديث وما كتبه أهل العلم، ثم يتوسَّع.
وأمَّا في مصطلح الحديث: فيطالع ويدرس "البيقونية"، ثم "اختصار علوم الحديث" لابن كثير، فـ"النخبة" لابن حجر، فـ"تدريب الراوي" للسيوطي، وكذلك يطالع "مباحث في علوم الحديث" للقطان، ثم يتوسع بعد ذلك.
وأما في العقيدة والتوحيد: فيبدأ بالثلاثة الأصول، والقواعد الأربعة، ثم كشف الشبهات، ثم كتاب التوحيد مع شرحه فتح المجيد.
ثم يأخذ لُمعة الاعتقاد، ثم الواسطية، ثم الطحاوية، ويطلع على كتب أهل السنة في ذلك الباب، وقد سبق الإشارة إليها.
وأما في الفقه وأصوله: يبدأ بأخذ الفقه على أحد المذاهب الأربعة أولاً قبل التوسع؛ حتى يتصور مسائلَ العلم بوضعها الصحيح، وليكن على مذهب الحنابلة مثلاً، فيدرس مُختصر ابن قدامة "عمدة الفقه"، ثم يطالع بعده "الروض المربع شرح زاد المستقنع"، ثم ينتقل إلى "الكافي" لابن قدامة، فـ"المغني" له، وهكذا في كل مذهب؛ حتى تتكونَ عنده ملكة الفقه وآلته.
وأما أصول الفقه: فيأخذ في "الورقات" للجويني، و"منظومة القواعد الفقهية"، و"الأصول من علم الأصول" للعثيمين، ويتوسع بعد ذلك.
وأما في السيرة والتاريخ: فيبدأ مثلاً بـ"الرحيق المختوم"، ثم "الفصول في سيرة الرسول" لابن كثير، ثم "سيرة ابن هشام"، و"زاد المعاد" لابن القيم.
ويطالع كذلك "من أعلام السلف" لأحمد فريد، و"العواصم من القواصم" لابن العربي، ثم "سير أعلام النبلاء" للذهبي، و"البداية والنهاية" لابن كثير.
وأما في الأخلاق والآداب: فليكن أولُ ما يبدأ به "حلية طالب العلم"، فإنه جيد وقيم، ثم قراءة "مختصر منهاج القاصدين"، ويطالع معه "رياض الصالحين"، فإنَّه عظيمٌ في باب الآداب والأخلاق، وكذلك مُطالعة كتب ابن القيم، فإنَّها عظيمةٌ؛ كـ"الجواب الكافي"، ويقرأ "أخلاق حملة القرآن" للآجُرِّي، ثم "مدارج السالكين" لابن القيم، و"صيد الخاطر" لابن الجوزي، وكذلك "تلبيس إبليس".
وأمَّا في اللغة والأدب: فيبدأ في النحو بحفظ ودراسة "متن الآجُرُّومية"، ثم "قطر الندى"، ثم "شذور الذهب في معرفة كلام العرب"، ثم "شرح الألفية"؛ لابن عقيل.
ويطالع في البلاغة والشعر: "البلاغة الواضحة" للجارم، و"ديوان المتنبي بشرح العكبري".
وأما في الدعوة وفقهها: فيقرأ "الأصول العلمية للدعوة السلفية" لعبدالرحمن عبدالخالق، و"فقه الخلاف" لياسر برهامي، و"أصول أهل السنة والجماعة" للعقل، و"معالم في أصول الدعوة" لمحمد يسري، و"أصول الدعوة" لعبدالكريم زيدان، و"الدعوة السلفية" لعاطف الفيومي، وغيرها من الكتب المعتمدة، وهي كثيرة بفضل الله.
ولا ننسى أن نلتفتَ إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فإنَّها عظيمة النَّفع، غزيرة التأصل والمعارف والعلوم، وكذلك كتب تلميذه الفذ ابن القيم، وكتب الحافظ ابن رجب الحنبلي، وكتب النووي وابن حجر العسقلاني وغيرهم كثير، ومن المؤلفات الجيدة النافعة مؤلفات الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - وكذلك العلاَّمة المحدِّث الألباني، وابن باز، والعثيمين، وصالح آل الشيخ - نفع الله بعلمهم[4].
هذا تصوُّر مُختصر لمنهجيَّة طلب العلم الشرعي والتفقُّه فيه، وإلاَّ فإنَّ الباب واسع ومهم، لكن ليس العلم بكثرةِ الكتب، وإنَّما العلم بالحفظ له، والفهم والعمل به، فقد ترى عالِمًا كبيرًا لا يَملك الكثير من أُمَّهات الكتب، إلاَّ أنَّه قد أحسن المطالعة والفهم لمسائل العلم، وتَصَوُّرها تَصوُّرًا صحيحًا، حتى تَمَكَّن منها، وأصبحت لديه مؤهلاتُ التصدُّر والكلام.
السادس: وهو أمر مهم لكل طالب أنْ يلزمَ آدابَ الطلب في نفسه، ومع شيخه، فيظهر عليه سَمْت أهل العلم والفضل، ويوصف بالأخلاق الكريمة، ويكون صاحب آداب سنية نبَوية، وصاحب همَّة عالية، وصاحب حفظ وفهم ومُذاكرة، ويعمل بعلمه، ولا يطلب به عَرَضًا من عرض الدنيا، ولا غرضًا من أغراضها القليلة، بل عليه أن يَجعل علمه وطلبه ابتغاءَ وجه الله - تعالى - وحْدَه.
وقد قال تعالى في صفة أهل العلم: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 - 109].
قال الإمام الشعبي: "إنَّما كان يطلب العلم من اجتمعت فيه خصلتان: العقل، والنسك، فإن كان عاقلاً، ولم يكن ناسكًا، قال: هذا أمر لا يناله إلا النساك، فلن أطلبه، وإن كان ناسكًا، ولم يكن عاقلاً، قال: هذا أمر لا يناله إلاَّ العقلاء، فلن أطلُبَه - يقول الشعبي -: فلقد رهبت أن يكون يطلبه اليوم مَن ليس فيه واحدة منهما لا عقل ولا نسك"[5].
قال الإمام مالك: "حقٌّ على مَن طلب العلمَ أن يكون له وقارٌ، وسكينة، وخشية، والعلم حسن لمن رزق خيره، وهو قسم من الله تعالى"[6].
وهذه جملة من الآداب المهمة لطالب العلم:
وقال مالك بن أنس عالم المدينة المنورة: "نصف العلم لا أدري"، وقال ابن المنكدر: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل".
وقال محمد بن عثيمين - رحمه الله -: "أنْ يعمل طالبُ العلم بعلمه عقيدةً وعبادة، وأخلاقًا وآدابًا ومعاملةً؛ لأنَّ هذا هو ثَمرةُ العلم وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحاملِ لسلاحه، إما له وإمَّا عليه؛ ولهذا ثبت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((القرآنُ حجة لك أو عليك))؛ لك إن عَمِلْتَ به، وعليك إن لَمْ تَعمل به، وكذلك يكون العمل بما صَحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتصديقِ الأخبار، وامتثال الأحكام، إذا جاء الخبر من الله ورسوله، فصدقه وخذه بالقبول والتسليم، ولا تقل: لِمَ؟ وكيف؟ فإنَّ هذا طريقةُ غَيْرِ المؤمنين، فقد قال الله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]"[7].
وقال أيضًا: "يتعيَّن على طالب العلم أن يبذلَ الجهد في إدراكِ العلم والصبر عليه، وأن يَحتفظ به بعد تَحصيله، فإنَّ العلمَ لا ينال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مُثاب على ذلك؛ لِمَا ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((مَن سلَك طريقًا يلتمس به علمًا، سَهَّل الله له طريقًا إلى الجنة))، فلْيُثابر طالبُ العلم، ويجتهد، ويسهر الليالي، ويَدَعْ عنه كُلَّ ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم.
وللسَّلف الصَّالِح قضايا مَشهورة في المثابرة على طلب العلم، حتى إنَّه يُروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل:بِمَ أدركت العلم؟ قال: بلسان سَؤول، وقلب عقول، وبدن غير مَلُول، وعنه أيضًا - رضي الله عنه - قال: "... إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه - وهو قائل - فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريحُ عليَّ من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عمَّ رسولِ الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلَيَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحقُّ أن آتيك، فأسأله عن الحديث..."، فابن عباس - رضي الله عنه - تَواضَعَ للعلم فرفعه الله به، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة"[8].
وقال أيضًا: "إنَّ على طلبة العلم احترامَ العلماء وتقديرهم، وأن تتَّسع صدورُهم لما يحصل مِن اختلاف بين العلماء وغيرهم، وأنْ يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جدًّا؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين؛ ليتخذ منها ما ليس لائقًا في حقهم، ويشوِّش على الناس سُمعتهم، وهذا من أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامِّي من الناس من كبائر الذُّنوب، فإن اغتيابَ العالم أكبر وأكبر؛ لأَنَّ اغتياب العالم لا يقتصر ضررُه على العالم، بل عليه وعلى ما يَحمله من العلم الشرعي"[9].
وقال بعض السلف: "يا حملةَ العلم، اعملوا فإنَّما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويُخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقًا يباهي بعضهم بعضًا، حتى إنَّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا يصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى"[10].
وقال ابن جماعة: "فالحذرَ الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة، فإنَّها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعضُ أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصِّفات إلا من عصم الله - تعالى - ولا سيما الحسد والعجب والرِّياء واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفاة في كتب الرقائق، فمن أراد تطهير نفسه منها، فعليه بتلك الكتب"[11].
السابع: سلفية المنهج والطلب: بمعنى أن يحرص طالب العلم على متابعة منهج السلف في الطلب والفقه، وكذلك في العقيدة والتوحيد، وكذلك في العبادة والسلوك؛ قال العلاَّمة بكر أبو زيد - رحمه الله -: "كن سلفيًّا على الجادة، طريق السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم ممن اقتفى أَثَرَهم في جميعِ أبواب الدين، من التوحيد، والعبادات، ونَحوها، متميزًا بالتزام آثارِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال، والمراء، والخوض في علم الكلام، وما يجلب الآثام، ويصد عن الشرع.
قال الذهبي - رحمه الله تعالى -: "وصَحَّ عن الدارقطني أنَّه قال: ما شيء أبغض إلَيَّ من علم الكلام، قلت: لم يدخل الرجل قطُّ في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفيًّا"؛[12] اهـ.
الشيخ عاطف بن عبد المعز الفيومي
|
الاثنين، 4 فبراير 2013
إليكم يا شباب الإسلام
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق