من الدعاة من يحمل هم الدعوة، ومنهم من تحمل الدعوة همَّه، ومن الدعاة من هو مكسب للدعوة، ومنهم من يتكسب من الدعوة.
ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة لصوص الدعوة، الذين سرقوا شرفها، وأهانوا كرامتها، ولم يراعوا لها حرمة، فتطاولوا عليها بأيديهم وألسنتهم، فأخذوا من حرز الدعوة ما يوجب إقامة حد السرقة عليهم.
يجسد حالهم ويوضح أخبارهم سفيان الثوري رحمه الله حين قال ليوسف بن أسباط: «إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء، وإياك أن تُخْدَعَ فيقال لك: نرد مَظْلِمَة، ندفع عن مظلوم، فإن هذه خَدْعَةُ إبليس، اتخذها القراء سلمًا»(1).
يعني بالقراء علماء الدين، يعني أن الشيطان يلبس على رجال الدين ما يلبسون، فيقول لهم ويقولون: إننا لا نريد بغشيان الأمراء والتردد عليهم إلا نفع الناس، ودفع المظالم عنهم، وهم إنما يريدون المال والجاه بدينهم، ويقل الصادق فيهم، وهكذا أضاعوا دينهم فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون.
ومن أحسن ما نظم في ذلك قول بعضهم:
قل للأمير مقـالة لا تركنن إلى فـقيه
إن الفقـيه إذا أتى أبوابكم لا خير فيه(2)
وبضاعتهم الرخيصة، وسلاحهم الضعيف الهش الذي يسطون به على خزينة الدين، هو تلبيس الحق بالباطل، وتزييف الحقائق وقلب الموازين، وخداع البسطاء، وإظهار جزء من الدين، وإخفاء ما لا يتفق مع أهوائهم {لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام:137].
وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة أننا كنا نعطي الزكاة للرسول صلى الله عليه وسلم ونطيعه، فليس علينا طاعة لأحد بعده، وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله، وقد قال شاعرهم، وهو الخطيل بن أوس:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر
وقد فعل ذلك الناقمون على عثمان رضي الله عنه؛ فلبسوا بأمور زينوها للعامة؛ كقولهم رقي إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المنبر، وذلك استخفاف؛ لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه، وسقط من يده خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك رمز على سقوط خلافته(3).
وقد ذكر الرازي في قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] أن إضلال الغير والتلبيس عليه لا يحصل إلا بطريقين؛ فإن كان ذلك الغير قد سمِع دلائل الحق قبل ذلك فإن إضلاله لا يتحقق إلا بتشويش تلك الدلائل عليه، وإن كان لم يسمعها من قبل فإن إضلاله إنما يكمن بإخفاء تلك الدلائل عنه، ومنعه من الوصول إليها، فقوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} إشارة إلى الطريق الأولى وهي تشويش الدلائل، وقوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} إشارة إلى الطريق الثانية، وهي منعه من الوصول إلى الدلائل(4)، وكلا الطريقين بلاء عبادَ الله.
واللَّبس إنما يقع إذا غاب العِلم بسبيل الحق وسبيل الباطل أو بأحدهما، كما قال الفاروق رضي الله عنه: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية»، ومن هنا ذاعت مقولته المشهورة: «لستُ بالخبِّ ولا يخدعني الخب»، والخِبُّ هو اللئيم المخادِع.
إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم، بدليل عدم الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليلًا، وإنما ما دام هناك الأمن والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك، فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء والتمحيص آثر السلامة والراحة، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد.
ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء، كلا، فالمطلوب سؤال الله العافية، وعدم تمني البلاء، كما لا يفهم منه أيضًا الدعوة إلى التهور والطيش، معاذ الله، فلا بد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات، لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله سبحانه في ابتلاء المؤمنين، وأن نوطن أنفسنا على هذه الأمور؛ لأنه لا بد منها لكل من ادعى الإيمان وتصدّر للدعوة والجهاد، ولا بد منها ليتميز الخبيث من الطيب، ولا بد منها لتمحيص القلوب والصفوف، ولو قلبنا تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتاريخ الدعاة والمصلحين، لرأينا ذلك المعلَم ظاهرًا وقاسمًا مشتركًا عندهم جميعًا.
وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم، وحبهم للراحة، وضعف همتهم بالتواضع البارد، والزهد في المسئولية؛ لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله سبحانه لا يعرف صاحبها الراحة، وتحتاج إلى همة عالية، لكنه عوضًا من أن يعترف بضعفه هذا فإنه يغالط نفسه وغيره، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على الخوف من المسئولية، واحتقار النفس، وأن هناك من هو أولى وأتقى وأفضل... إلخ(5).
قال سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}: «وقد يكون المقصود بالنهي هنا هو ما يكسبه رؤساؤهم من ثمن الخدمات الدينية، والفتاوى المكذوبة، وتحريف الأحكام حتى لا تقع العقوبة على الأغنياء منهم والكبراء، كما ورد في مواضع أخرى...، على أن الدنيا كلها، كما قال بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في تفسير هذه الآية، ثمن قليل حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله، وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة عند الله»(6).
وقال أيضًا: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}، وذلك لقاء السكوت، أو لقاء التحريف، أو لقاء الفتاوى المدخولة! وكل ثمن هو في حقيقته قليل، ولو كان ملك الحياة الدنيا، فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقابًا، ومصالح صغيرة يباع بها الدين، وتشترى بها جهنم عن يقين؟!
إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن، وليس أبشع من تفريط المستحفظ، وليس أخس من تدليس المستشهد.
والذين يحملون عنوان (رجال الدين) يخونون ويفرطون ويدلسون، فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله»(7).
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكـن أهـانوه فهان ودنـسوا محياه بالأطمـاع حتى تجهما
قال ابن القيم رحمه الله، وهو يتكلم على الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى الحرام: «وكَحِيَل اللصوص والسراق على أخذ أموال الناس، وهم أنواع لا تحصى؛ فمنهم السراق بأيديهم، ومنهم السراق بأقلامهم، ومنهم السراق بأماناتهم، ومنهمالسراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد، وهم في الباطن بخلافه، ومنهم السراق بمكرهم وخداعهم وغشهم.
وبالجملة، فحيل هذا الضرب من الناس من أكثر الحيل، وتليها حيل عشاق الصور على الوصول إلى أغراضهم، فإنها تقع في الغالب خفية، وإنما تتم غالبًا على النفوس القابلة المنفعلة الشهوانية، وكحيل التتار التي ملكوا بها البلاد، وقهروا بها العباد، وسفكوا بها الدماء، واستباحوا بها الأموال، وكحيل اليهود وإخوانهم من الرافضة، فإنهم بيت المكر والاحتيال، ولهذا ضربت على الطائفتين الذلة، وهذه سنة الله في كل مخادع محتال بالباطل»(8).
قال الشيخ محمود شاكر رحمه الله: «وهذا الأسلوب في تجاهل الألفاظ، ثم الالتفاف حولها بألفاظ أخرى، وإخراجها مخرج الأمر غير المتعمد، وإخفاء المحرك وراء نقاب مموه، هو من الأساليب الناجحة أيضًا (في علم السطو)، والذي يقتدر عليه يبلغ مبلغًا عظيمًا في باب (السطو الخفي)، فاحفظه فإنه نافع جدًا .
وإذا خلط بمسحوق (حَبِّ الثرثرة) طَيَّب نَفْسَ القارئ، وأطفأ حرارة الفهم، وسهل عمل الغفلة، هذه فائدة طيبة منقولة عن ابن البيطار العشاب الطبيب، وانتهت النكتة اللطيفة»(9).
وقال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :«فمن لم يكن له دين يعصمه، وخوف من الله يسدده، أحكم السرقة حتى لا تكاد تنكشف.
ذلك لتعلموا أنه لا الحضارة ولا العلم ولا الأخلاق بالتي تغني عن الدين؛ لأنها كلها للناس، فإن لم ير صاحبها الناس، أعرض عنها وتناساها، واتبع شهوته ومصلحته .
أما صاحب الدين فيعلم أنه إن خلا بنفسه، وغلق عليه الأبواب، وأسدل الستائر، واستخفى من الناس، فإنه لا يستخفي من الله، وهو معه يسمعه ويراه، وإن أنكر شهدت عليه يده التي اقترف بها الذنب، ورجله التي مشى بها إليه، وجلده الذي لا يستطيع أن يخلعه، ويخرج منه، كما يخرج من ثوبه، ليلبس ثوبًا غيره فلا يعرفه من يبصره».
رحم الله علماء الأمة المخلصين ما أنصفهم، فقد أعضل الداء وعزّ الدواء على أناس امتلأت قلوبهم بنكت سوداء، فأصبحت كالكوز مجَخِيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشْرِبَ من هواه .
إلى الديان يوم الدين نمضي وعـند الله تجتمع الخصوم
والمؤمن لا يكذب ولا يسرق، ومن كذب أو سرق لا يوثق في علمه أو نقله، فكيف بمن اجتمعت فيهم السرقة والكذب؟(10).
والذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء، فهم الذين تَحُول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان، أو لا تبرز لهم؛ بسبب علمهم الناقص السطحي، علامات الاستفهام، وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق(11).
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس! صلبة لا تقبل التمييع! والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة، وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودًا لا تكل، وحملات لا تنقطع، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته كل الوسائل، وكل الأجهزة، وكل التجارب، هم يسحقون، سحقًا وحشيًا، كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض، عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرض.
وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحلون ما حرم الله، ويميعون ما شرعه، ويباركون الفجور والفاحشة، ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه!
وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية، المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها؛ ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع، ورفع شعاراتها، أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها! وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثًا تاريخيًا مضى ولا يمكن إعادته، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين، ثم ليقولوا لهم، في ظل هذا التخدير:
إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة، لا شريعة ونظامًا، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم! هذا وإلا فإن على هذا الدين أن (يتطور) فيصبح محكومًا بواقع البشر، يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين.
وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم، الذي كان إسلاميًا، نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين، لتحل محل ذلك الدين القديم! وينزّلون لها قرآنًا يتلى ويدرس، ليحل محل ذلك القرآن القديم! وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات، كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين، كوسيلة أخيرة، حتى لا يجد هذا الدين قلوبًا تصلح للهداية به، فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش، لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد؛ كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين!
إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به، المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج، وجميع الوسائل بلا حساب، والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام العالمية، والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية، والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يومًا واحدًا لولا هذه الكفالة العالمية! ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية.
والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق، على قلة العدد وضعف العدة، ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية... والله غالب على أمره(12).
_______________
(1) شعب الإيمان، للبيهقي (12/36).
(2) تفسير المنار، محمد رشيد رضا (2/235).
(3) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور (1/471).
(4) مفاتيح الغيب، للرازي (3/485).
(5) صور من لبس الحق بالباطل، عبد العزيز بن ناصر الجليل، مجلة البيان، العدد: 88.
(6) في ظلال القرآن، سيد قطب (1/67).
(7) المصدر السابق (2/897).
(8) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (3/258).
(9) المتنبي، لأبي فهر محمود محمد شاكر، ص113.
(10) لصوص النصوص من كلام العلماء وكتبهم، أحمد بوادي، موقع الألوكة.
(11) في ظلال القرآن (2/804).
(12) المصدر السابق (3/1404).