الفرج بعد الشده
الفرج بعد الشده
قبض على إبراهيم بن المهدي وهو بزي امرأة
أن إبراهيم بن المهدي،
لما طال
استتاره من المأمون،
ضاق صدره، فخرج ليلة من موضع كان فيه مستخفياً،
يريد موضعاً
آخر، في زي امرأة، وكان عطراً.
فعرض له حارس، فلما شم منه رائحة الطيب،
ارتاب به، فكلمه، فلم يجب، فعلم
أنه رجل، فضبطه.
فقال له:
خذ خاتمي، فثمنه ثلاثون ألف درهم وخلني، فأبى،
وعلق به، وحمله
إلى صاحب الشرطة، فأتى به المأمون.
فلما أدخله داره،
وعرف خبره، أمر بأن يدخل إليه،
إذا دعي،
على الحال
التي أخذ عليها.
ثم جلس مجلساً عاماً،
وقام خطيب بحضرة المأمون، يخطب بفضله،
وما رزقه
الله، جلت عظمته، من الظفر بإبراهيم.
وأدخل إبراهيم بزيه، فسلم على المأمون،
وقال:
يا أمير المؤمنين،
إن ولي
الثأر محكم في القصاص،
والعفو أقرب للتقوى،
ومن تناولته يد الاغترار،
بما مد له من
أسباب الرجاء،
لم يأمن عادية الدهر،
ولست أخلو عندك من أن أكون عاقلاً أو جاهلاً،
فإن كنت جاهلاً فقد سقط عني اللوم من الله تعالى،
وإن كنت عاقلاً،
فيجب أن تعلم أن
الله عز وجل،
قد جعلت فوق كل ذي عفو،
كما جعل كل ذي ذنب دوني،
فإن تؤاخذ، فبحقك،
وإن تعف، فبفضلك،
ثم قال:
ذنبي إليك عظيم * وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك أو لا * فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي * من الكرام فكنه
وقال:
أذنبت ذنباً عظيماً * وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمنٌّ * وإن جزيت فعدل
قال:
فرق له المأمون،
وأقبل على أخيه أبي إسحاق وابنه العباس والقواد،
وقال:
ما ترون في أمره ?
فقال بعضهم:
يضرب عنقه.
وقال البعض: تقطع أطرافه،
ويترك إلى أن يموت،
وكل أشار بقتله،
وإن
اختلفوا في القتلة.
فقال المأمون،
لأحمد بن أبي خالد:
ما تقول أنت يا أحمد ?
فقال:
يا أمير
المؤمنين،
إن قتلته،
وجدت مثلك قد قتل مثله،
وإن عفوت عنه، لم تجد مثلك قد عفا عن
مثله،
فأي أحب إليك،
أن تفعل فعلاً تجد لك فيه شريكاً،
أو أن تنفرد بالفضل ?
فأطرق
المأمون طويلاً،
ثم رفع رأسه،
فقال:
أعد علي ما قلت يا أحمد،
فأعاد.
فقال المأمون
: بل ننفرد بالفضل،
ولا رأي لنا في
الشركة.
فكشف إبراهيم المقنعة عن رأسه،
وكبر تكبيرة عالية،
وقال:
عفا-
والله-
أمير المؤمنين عني،
بصوت كاد الإيوان أن يتزعزع منه،
وكان طويلاً،
آدم،
جعد الشعر،
جهوري الصوت.
فقال له المأمون:
لا بأس عليك يا عم،
وأمر بحبسه في دار أحمد بن أبي
خالد.
فلما كان بعد شهر، أحضره المأمون،
وقال له:
اعتذر عن
ذنبك.
فقال:
يا أمير المؤمنين،
ذنبي أجل من أن أتفوه معه بعذر،
وعفو أمير
المؤمنين،
أعظم من أن أنطق معه بشكر،
ولكني أقول:
تفديك نفسي أن تضيق بصالح * والعفو منك بفضل جود
واسع
إنّ الذي خلق المكارم حازها * في صلب آدم للإمام
السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة * وتظلّ تكلؤهم بقلبٍ
خاشع
فعفوت عمّن لم يكن عن مثله * عفو ولم يشفع إليك
بشافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا * وحنين والدة بقلب
جازع
ردّ الحياة إليّ بعد ذهابها * كرم المليك العادل
المتواضع
فقال له المأمون:
لا تثريب عليك يا عم،
قد عفوت عنك، فاستأنف الطاعة
متحرزاً من الظنة،
يصف عيشك،
وأمر بإطلاقه،
ورد عليه ماله وضياعه،
فقال إبراهيم
يشكره في ذلك:
رددت مالي ولم تبخل عليّ به * وقبل ردّك مالي قد حقنت
دمي
فأبت عنك وقد خوّلتني نعماً * هما الحياتان من موت ومن
عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به * والمال، حتى أسلّ النعل من
قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت * إليك لو لم تعرها كنت لم
تلم
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي * مقام شاهد عدل غير
متّهم
فإن جحدتك ما أوليت من نعم * إنّي لباللؤم أولى منك
بالكرم
فقال المأمون:
إن من الكلام،
كلاماً كالدر،
وهذا منه،
وأمر لإبراهيم
بخلع ومال،
قيل أنه ألف ألف درهم.
وقال له:
يا إبراهيم،
إن أبا إسحاق،
وأبا عيسى،
أشارا علي
بقتلك.
فقال إبراهيم:
ما الذي قلت لهما يا أمير المؤمنين ?
قال:
قلت لهما:
إن
قرابته قريبة،
ورحمه ماسة، وقد بدأنا بأمر،
وينبغي أن نستتمه،
فإن نكث فالله مغير
ما به.
قال إبراهيم:
قد نصحا لك،
ولكنك أبيت إلا ما أنت أهله يا أمير المؤمنين،
ودفعت ما خفت،
بما رجوت.
فقال المأمون:
قد مات حقدي بحياة عذرك،
وقد عفوت عنك،
وأعظم من عفوي عنك
أنني
لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين.