الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد:
نتذاكر أمرا محمودا، وهو من الأهمية بمكان, وأمرا مذموما وهو من الضرر بمكان، ألا وهما: شكران النعم وكفرانها.
فإن شكر النعم من أشهر وأظهر سمات المؤمنين، وكفران النعم من أشهر وأظهر صفات الكافرين, قال الله عز وجل: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧)﴾. وهذا أمر عام في جميع نعم الله، الظاهرة والباطنة. فإن النعمة إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، وقد قيل:
إذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَاِرعَها** فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم
وَحافِظ عَلَيها بِشكر الإِلَهِ **فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم
والأمثلة على ذلك ظاهرة وجلية، وقد أمر الله عز وجل آل داود وهو أمر لجميع المؤمنين بالشكر، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣)﴾. وقال في قوم سبأ، الذين أعرضوا وكفروا نعمة الله: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)﴾.
فحمد الله وشكره من الأمور المهمة في ديننا وشرعنا، ولذلك افتتح الله كتابه وخلقه بالحمد، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾. ﴿الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)﴾, وختمها بالحمد, أي حين أدخل أهل الجنة الجنة وخلدوا فلا موت، وأدخل أهل النار النار فخلدوا ولا موت، قال: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)﴾.فيحمد على عظيم مننه، وكريم نعمه، كما يحمد على عظيم عدله سبحانه وتعالى، ولأهمية الحمد قال الله: ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)﴾ .
وربنا عز وجل يرضى عن العبد، إذا حمده وشكره, فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» أخرجه مسلم .
فإذا كانت شربة وأكلة يرضى الله عنك إذا حمدته عليها، فكيف إذا حمدته وشكرته على نعمة الإسلام والسنة والاستقامة وغير ذلك من النعم العظيمة.
إن حمد الله عز وجل وشكره من أعظم أسباب رضا الله، ولهذا ابتلى الله العباد بالشكر والكفر، فقال مخبراً عن سليمان: ﴿هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)﴾.
وأرسل الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع، لاختبار الناس من الذي يشكر النعمة فيضاعفها له ويزيدها عليها، وقد أحسن من قال:
(ومن يشكر الله يلقى المزيد* ومن يكفر الله يلقى الغير).
ومن يكفره النعمة قد تسلب منه, قال تعالى: ، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ﴾.
فعلى الإنسان أن يكون شاكرا لله بلسانه حاله ومقاله، لأن الشكر ليس مقصوراً على اللسان، كما يظنه جماهير الناس بل الشكر يكون لله بالقلب استكانة وخضوعا ويكون باللسان ذكرا وثناء، ويكون بالجوارح انقيادا واستسلاما، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم الليل حتى تتفطر قدماه قيل له، قال: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها .
فالشكور هو الذي يسخر جوارحه في طاعة الله، ومرضاته.
ومن أشهر وأظهر طرق الحمد والشكر: اللسان. أن يكون هجير العبد، الحمد لله والشكر لله, فما أنت فيه من الخير فهو فضله تعالى, قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)﴾.
ومن حمد الله وشكره شكر من أحسن إليك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا ﻣَﻦْ لا ﻳَﺸْﻜُﺮُ ﺍﻟﻨَّﺎﺱَ» أخرجه الترمذي .
فحافظوا على شكر الله، يزدكم من فضله، فهو الشكور ومن شكره أنه يضعف للعبد الحسنة إلى عشر أمثالها إلى سبعة مائة ضعف، قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)﴾. فيعمل العبد العمل اليسير ويشكره الله عليه، ويضاعف له، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ أنه غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)﴾، فاسمه الشكور فتخلق بهذا الخلق، واتصف به فإنه صفة كمال ومدح، ﴿وَلِلهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ۚ﴾، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾
بينما كفران النعم يؤذن بزوالها وذهاب بركتها، وحصول ضررها، وما دمدم الله عز وجل على الكافرين، وقست قلوبهم إلا بعدم شكرهم، وخضوعهم لله.
فإذ امتن الله عليهم بالمال والولد والضيعات وغير ذلك، نسبوها إلى أنفسهم كما قال الله عز وجل عن قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾.
أوعلى فضل لهم عند الله كما أخبر الله عز وجل عن صاحب الجنة: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 35 - 43] ، وقد دمدم الله عز وجل على أولئك الذين نسبوا النعمة لأنفسهم كما في الحديث الثلاثة الذين من بني إسرائيل فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إليهمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ - أَوْ قَالَ الْبَقَرُ، شَكَّ إِسْحَاقُ - إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ، أَوِ الْأَقْرَعَ، قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ، قَالَ: فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إليه بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، قَالَ: فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ، قَالَ: ثُمَّ أنه أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيرًا، أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ الله، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ " أخرجه مسلم . [ص:2276]
فإذا أردت دوام النعمة فاشكرها وإذا تعجلت زوالها فلا أسرع من كفرانها، كما ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الجنة، ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (٢٢) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾.
فالطغيان وعدم شكر النعم سبب لزوالها .
وفي باب الشكر ما أخرجه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإذا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإذا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَبِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ - لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ - فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ».
فأكرمه الله، بهذه الكرامات العظيمات، والمنزلات الرافعات في الدنيا فما بالك بالآخرة التي أعد الله للمؤمنين فيها جنة وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وشأن المؤمن على الشكر والصبر فعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «عَجَباً لأمر الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمرهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ» أخرجه مسلم .
يمرض فيحمد الله يعلم أن الله أراد به خيرا كفير الذنوب، ورفع الدرجات، ويصيبه الفقر ويحمده على ما أراده يحمده على حكمته، ويشكره على ما هو فيه من النعمة، صحة البدن، وصحة العقل، إلى غير ذلك.
بينما الكافر في ليله ونهاره وسره وجهاره وهو لا يرى لله نعمة ولا يرى له شكرا، ولذلك دمدم الله عليهم في الدنيا والآخرة، فكن شاكرا لله عز وجل بقولك، وفعلك، واعتقادك، مستحضرا لعظيم نعمه، وجزيل مننه، فإن هذا من أسباب صلاح العبد واستقامته على الدين، ويعلم أن كل ما هو فيه من خير من الله، وما هو فيه من شر وضير ونقص فبسبب ذنوبه ومعاصيه {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
وقد أحسن محمد الوراق إذ يقول:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ** عليَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله**وإن طالت الأيام واتصل العمر
ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد
والحمد لله رب العالمين.