الحزبيّة
إنّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ باللهِ من شرور أنفسِنا، ومن سيّئات أعمالِنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليّا مرشدا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، أمّا بعد:
فلا يخفى على كلِّ ذي بصيرة ما أدّى إليه داءُ الحزبيّة في المسلمين من تنافر وتناحر وتشتّت وضعف. كما لا تخفى النّصوص الشّرعية الواضحة الجليّة في تحريم الحزبيّة المقيتة، وكثرة النّصوص الدّاعية إلى الاجتماع، والاعتصام بكتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، على فهم السّلف الصالح.
قال الله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران من: 105]، وقالتعالى:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الرّوم: 31-32].
بل أراد لهم أن يكونوا حزباً واحداً متمسّكاً بمنهج الله القويم، وإن هم فعلوا ذلك فقد تكفّل سبحانه لهم بالنّصر والتّمكين، قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ} [المجادلة من: 22].
ولقد دأب أهل العلم قديما وحديثا على التّحذير منها ومن دعاتها، وفيما يلي نَصيحةُ عالِمٍ عظيمٍ، وإمامٍ كَبير، وسلفيٍّ جَليل، وهو العلاَّمةُ محمّد البشير الإبراهيميّ رحمه الله، حيثُ يقول - وكأنّه يخاطبُ ضمائرَنا، ويَسْتَنْهِضُ أحاسيسَنا في أحوالٍ مِثلِ أحوالِنا - وقد تكون أشدَّ:
" العِلمَ العِلْمَ أيُّها الشَّباب ! لا يُلهِيكُم عنهُ سِمسارُ أحزاب ينفخ في ميزاب ! ولا داعيةُ انتخاب في المجامِع صَخّاب !
ولا يَلْفِتَنَّكُم عنهُ مُعَلِّلٌ بسراب، ولا حاوٍ بجِراب، ولا عاوٍ في خَراب يَأْتَمُّ بغُراب.
ولا يَفتِنَنَّكُم عنهُ مُنْزَوٍ في خَنْقة، ولا مُلْتَوٍ في زَنْقَةٍ، ولا جالسٌ في ساباط على بِساط، يُحاكِي فيكُم سُنَّة الله في الأسباطِ، فكُلُّ واحدٍ مِنهؤلاءِ مُشَعْوِذٌ خلاَّب ! وساحرٌ كَذَّاب !
إنَّكُم إنْ أطَعْتُم هؤلاءِ الغُواة، وانْصَعْتُم إلى هؤلاءِ العُواةِ خسِرْتُم أنفُسَكُم، وخسِرَكُم وطَنُكُم، وستَنْدَمُونَ يومَ يَجْنِي الزَّارِعُونَ ما حَصَدُوا
ولاتَ ساعة ندَم " ["عيون البصائر" لمحمّد البشير الإبراهيمي: (350-351)].
و قال رحمه الله تعالى:
" أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيّات التي نَجَمَ بالشّر ناجمُها، وهجم - ليفتك بالخير والعلم - هاجمُها، وسَجَم على الوطن بالملحالأُجاج ساجِمُها.
إنّ هذه الأحزاب ! كالميزاب؛ جمع الماء كَدَراً وفرّقه هَدَراً، فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع ". ["عيون البصائر" (2/292)].
إنَّها - واللهِ - نَصيحةُ عالِمٍ شَفيق بكلامٍ حقٍّ خالصٍ رَقيق، وبِعِلْمٍ واثِق دَقيق، وبأُسلوبٍ فائقٍ أنيق، وبلسانٍ جميلٍ رَشيق، وبِفَهْمٍ صادِق عَميق.
فهَلاَّ استجبتُم له ؟ وانْتَصَحْتُم بنُصْحِه ؟
إنّ مفاسدَ الحزبيّة أكبرُ من أن تعدّ وتحصى، ولا بأس هنا أن نذكّر ببعضها؛ حتّى يستنير طريق السّالكين، ويفهم القصد كلّ فطن لبيب، فمن أهمّها:
أوّلا: مخالفتُها لأصل الاعتصام والائتلاف، وعدم التفرّق والاختلاف:
فالاعتصام أصلٌ من أهمّ أصول الإسلام, قال تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
ويترتّب على ذلك التعدّد: انقسامُ المسلمين في أحزابٍ وشيعٍ متباعدة, سرعان ما تكون متناحرة متنافرة، تجرّ على المسلمين التّباغضَ والتّحاسد، والتّقاطع والتّدابر, ولا يخفى واقعها على المسلمين.
ثانياً: تطلّعها للحكم وحرصها على الرّياسة:
فما من حزبٍ إلاّ ويتطلّع غالباً للحكم والرّياسة, ويسعى للوصول إليه بكلّ طريقة, وقد نهى النبيّ عن تولية الأمر من سأله, وحذّر طلبه, كما صحّ عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ قَوْمِي، فقالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وقالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فقالَ: (( إِنَّا لَا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلَا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ )) [رواه البخاري].
ومعلومٌ كم جرّ - ويجرّ - طلبُ الإمارة والحرصُ عليها من شرورٍ على المسلمين, ومنازعةِ ولاةِ الأمر الشّرعيّين ما قلّدهم الله إيّاه من أمانة, وكم أريقت بسببه دماء, واستبيحت حرمات !
ثالثاً: تزكية نفسِها والطّعن في غيرها:
فما من حزبٍ - إلاّ من رحم الله تعالى - إلاّ وينشد أمجاده, ويظهر فضل أسياده, وكثيراً ما يقع في الكذب الواضح؛ والتزييف الفاضح, والله تعالى يقول:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَوَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} [النّساء], وقال تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النّجم: (32)].
وغالباً ما يصاحب ذلك طعنٌ في غيرها, وتشنيعٌ عليها, ووصفُها بما فيها وهو الغيبة, وبما ليس فيها وهو البهت, وقد نهانا الله عن ذلك كلّه.
رابعاً: حرصها على إظهار عيوب الحاكم:
وذلك حتّى يؤولَ الحكم إليها, فتُظهِر نفسها في صورة النّاصح الأمين, وتظهر الحاكم في صورة شيطان رجيم, حتّى تحكم بدلاً منه.
وغالباً ما تغدر به، وهذا حرام, فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاٌ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلاَ وَلاَ غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْراً مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ )) [مسلم].
إنَّ وُلوجَ مُعتركِ العمل السِّياسي المُعاصِر مُغامرةٌ أشبهُ ما تكونُ بالمُقامَرَة، فإيّاكَ - أخي العزيز - وهذه المُقامَرَةَ الخطِرَة ...
إيَّاكَ والتَّضحيةَ بالدَّعوة، فهي مضمونةُ النَّتيجةِ بالإخلاصِ والسُنّة إن شاءَ الله - إنْ في الدُّنيا، وإنْ في الآخِرَةِ - ونَرجُو اجتماعَهما بالخيرِ والبَرَكَة والتَّوفيق.
تذكّر أخي الحبيب جِهادَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه الله العلميَّ، العقَديَّ، المنهجيَّ، وهو القائل:" أنا رجُلُ مِلَّة، لا رَجُلَ دَولَة ".
فحافِظْ - أيّها الأخ الحبيب - على هذا الدّوْرِ الجَليل، ولا تُدَنِّسُهُ بِوُلوجِ أبوابِ السِّياسةِ التي مَهْما طالَت: فعُمرُها قَصير ! ومهما كَبُرَت: فحجمُها صغير.