أقوام نعمّهم مولاهم بقربه
يا أخي، لله درّ أقوام
نعمّهم مولاهم بقربه، فحجبهم عن خطرات الوسواس. حمي اقليم قلوبهم من غبار الشهوات
من حمايته بحراس، قبلوا أمره بالقبول، وقاموا به على العينين والرأس، قدّموا زاد
الأعمال لسفر الموت وظلمة الأرماس، يا بطّال، أبطال ميدان الدّجى لله درّهم من
أبطال وأفراس، خلع عليهم خلعة الرضا، ونادهم مرحبا بالأحباب الأكياس،{ كنتم خير أمة
أخرجت للناس} آل عمران 110.
أيا نفس توبي
قبل أن ينكشف الغطا وأدعى الى
يوم النشور وأجزع
فلله عبد
خائف من ذنوبه
تكاد حشاه من أسى تتقطع
اذا جنّه
الليل البهيم رأيته
وقد قام في محرابه يتضرّع
ينادي بذل يا
الهي وسيدي ومن
يهرب العاصي اليه ويفزع
قصدتك يا
سؤلي ومالي مشفع سوى حسن
ظني حين أرجو وأطمع
فجد لي بعفو
وامح ذنبي ونجّني من النار
يا مولى يضرّ وينفع
بهذا ينال
الملك والفوز في غد
ويجزى نعيما دائما ليس يقطع
وقف الفضل الجوهري العالم في
الحرم متوجها الى الكعبة وهو محرم ثم قال بأعلى صوته:
يا تلفى
بحتوف المراقبة والمعرفة، يا قتلى بسيوف المؤانسة والمحبة، يا حرقى بنار الخوف
والاشتياق، ويا غرقى في بحر المشاهدة والتلاق، هذه ديار المحبوب، فأين المحبون؟ هذه
أسرار القرب، فأين المشتاقون؟ هذه آثار الديار والربوع فأين القاصدون؟ هذه ساعة
العرض والاطلاع على الدموع فأين الباكون؟.
ثم شهق شهقة عظيمة وغشي عليه، فأفاق بعد ساعة وهو
يقول:
مذ تبدي
لناظري بلبل الشوق
وخاطري
حاضر غير
غائب ساكن في
الضمائر
هو كنزي الذي
بدا في الرسوم
والدوائر
قال الراوي: فدنوت منه وقلت له: يا سيدي ما علامة المحبين
لله؟.
قال: ان المحبين عند ظلام الليل عند الله سبحانه وتعالى نشاطا، وبينهم
وبينه انبساطا، شغلهم الأنس بمعبودهم عن لذة الكرى، وقطعهم الشغل به عن جميع الورى،
ولا يؤثرون على مناجاته مناما، ولا يختارون على كلامه كلاما، عرفه من عرفه، وذاقه
من ذاقه، واستأنس به من استطابه.
سبحان من حكم بالفناء على الخلائق، فتساوى عنده
الملوك والعبيد، تفرّد بالبقاء، وتوحّد بالقدم، وصرف أقداره في الملك بما يريد، ظهر
افتقار الكل اليه، الصالح والطالح والغويّ والرشيد، { يسأله من في السموات والأرض
كل يوم هو في شأن} الرحمن 29.
جواد غمر الكل عطاؤه، فأين يفر العاصي ومن يجبر الفقيد؟ كم جدّل القضاء
من زعيم، وكم أدخل للحضر من طريد، ما أغفل أهل المعاصي عن قسمة العباد، فمنهم شقي
ومنهم سعيد.
احدى وستون
لو مرّت على حجر لكان من حكمها أن
يخلق الحجر
تؤمّل النفس
آمالا لتبلغها كأنها لا
ترى ما يصنع القدر
قال أبو اسحاق الجبيلي: قدمت
على علي بن عبدالحميد الغضائري، فوجدته أفضل خلق الله عبادة، وأكثرهم مجاهدة، وكان
لا يتفرّغ من صلاته آناء ليله ونهاره، فانتظرت فراغه. فلم أصبه ولا
وجدته.
فقلت له: انّا قد تركنا الآباء والأمهات والأهلين والأوطان ولبنين
والبنات بالراحلة اليك، فلو تفرّغت ساعة تحدثنا بما آتاك الله من
العلم.
فقال: أدركني
دعاء الشيخ الصالح سريّ السّقطي رضي الله عنه، جئت اليه وقرعت عليه الباب، فسمعته
يقول قبل أن يخرج اليّ مناجيا: اللهم من جاءني يشغلني عن مناجاتك، فأشغله بك عني،
فما رجعت من عنده، حتى حبّبت اليّ الصلاة والشغل بذكر الله تعالى، فلا أتفرّغ الى
شيء سواه، ببركة ذلك الشيخ.
قال أبو اسحاق: فرأيت كلامه يخرج من قلب حزين، وهم كمين، والدمع يسابقه
رضي الله عنه.
سبحان من ألف بحكمته بين
لطائف الأرواح، وكثائف الأشباح، جعل الليل والنهار جناحي الأعمال، يطيران للفناء
بلا ريش ولا جناح، سقى أرواح المحبين شراب المحبة، فلله ما أحلاه من راح، غني لهم
في مجلس أنسهم معبد الوجد، فشربوا بالدّنان، لا بالأقداح، زيّنوا روضة الدجى بأزهار
التهجد، واصطبحوا على الأذكار أي اصطباح، فهم بين صبوح وغبوق وبين ريحان وراح،
قلوبهم في قالب الابتلاء، تنادي بلسان
تصبّرهم: لا براح. خلع عليهم خلعة الرضا، وأجلسهم بين أفراح من الشوق
وافتراح. نظروا الى الكون، فما رأوا سواه، فليس عليهم في هيمانهم جناح. غشي بصائرهم
نور معرفته، فترنّم عارفهم بألسنة من التوحيد، فصاح.
يا أعز الناس
عندي كيف حتى خنت
عهدي
سوف أشكو لك
حالي فعسى شكواي
تجدي
أنت مولاي
تراني ودموعي فوق
خدي
أقطع الليل
أقاسي ما أقاسي فيه
وحدي
قال ذو النون المصري رضي الله
عنه: عطشت في بعض أسفاري عطشا شديدا، فعدلت الى بعض السواحل أريد الماء، فاذا أنا
بشخص قد ائتزر بالحياء والاحسان، وتدرّع بدراع البكاء والأحزان، قائم على ساحل
البحر يصلي، فلما سلّم دنوت منه، وسلمت عليه قال: وعليك السلام يا ذا
النون.
قال: فقلت له: يرحمك الله، من أين عرفتني؟!.
قال: اطّلع
شعاع أنوار المعرفة من قلبي على صفاء نور المحبة من قلبك، فعرفت روحي روحك بحقائق
الأسرار، وألف سريّ سرّك في محبة العزيز الجبار.
قال: فقلت: ما اراك الا وحيدا!.
قال: ما الأنس بغير الله الا وحشة، وما التوكل بغيره الا
ذل.
فقلت له: أما تنظر الى تغطغط هذا البحر، وتلاطم هذه
الأمواج؟.
فقال: ما بك من العطش أكثر من ذلك.
فقلت: نعم، فدلني على الماء بقرب منه فشربت، ورجعت اليه، فوجدته يبكي
بشهيق وزفير.
فقلت له: يرحمك الله، ما يبكيك؟ّ.
فقال: يا أبا
الفيض، ان لله عبادا سقاهم بكأس محبته شربة أذهبت عنهم لذة الكرى.
قال: فقلت
له: دلني على أهل ولاية الله يرحمك الله.
قال: هم الذين أخلصوا في الخدمة، فاستخصّوا بالولاية، وراقبوا مولاهم،
ففتح لهم في نور القلوب.
قال: فقلت له: ما علامة المحبة؟.
فقال: المحب لله غريق في بحر الحزن الى قرار
التحيّر.
قال: فقلت له: ما علامة المعرفة؟.
قال: العارف بالله لم يطلب مع معرفته جنّة، ولا يستعيذ من نار، فعرفه له
ولم يعظم سواه معه.
ثم شهق شهقة
عظيمة، فخرجت روحه، فواريته في الموضع الذي مات فيه، وانصرفت عنه، رحمه الله ونفعنا
ببركاته.