وفي أنفسِكم أفلا تُبصرون
تفكَّرْ في نفسِك أيُّها الإنسانُ .. أين كنتَ؟ وكيف جئتَ؟ ومم خلقتَ؟
قال تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ* ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ* ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَانَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}
[المؤمنون:12 - 16].
فالإنسانُ إذا تفكَّر بعقلِه في نفسِه رآها مدبَّرةً وعلى أحوالٍ شتَّى مُصَرَّفة .. كان نطفةً، ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم لحمًا وعظمًا .. فيعلمُ ـ بهذا الفكرِ ـ أنه لم ينتقِلْ من حالِ النقصِ إلى حالِ الكمالِ، لأنَّه لا يقدرُ على أن يحدثَ لنفسِه في الحالٍ الأفضلِ التي هي كمالُ عقلِه وبلوغِ أشدِّه عُضْوًا من الأعضاءِ، ولا يمكنُه أن يزيد في جوارحِه جارحةً، فيدلُّه ذلك على أنه في حالِ نقصِه وأوانِ ضعفِه على فِعل ذلك أعجزُ.
وقد يرى نفسَه شابًّا ثم كهلًا، ثم شيخًا وهو لم ينقِلْ نفسَه من حالِ الشبابِ والقوةِ إلى حالِ الشيخوخةِ والهرمِ، ولا اختارَه لنفسِه، ولا في وُسْعِه أن يزايلَ حالَ المشيبِ ويراجعَ قوةَ الشبابِ.
فيعلمُ بذلك أنه ليس هو الذي فعلَ تلكَ الأفعالَ بنفسِه، وأنَّ له صانعًا صنَعَه، وناقلًا نَقَلَهُ من حالٍ إلى حالٍ، ولولا ذلك لم تتبدلْ أحوالُه بلا ناقلٍ ولا مدبرٍ.
وقالَ بعضُ الحكماءِ: إن كلَّ شيءٍ في العالمِ الكبيرِ له نظيرٌ في العالمِ الصغيرِ الذي هو بدنُ الإنسانِ ولذلك
قال تعالى:
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}
[الذرايات:21].
• والسمعُ والبصرُ منها بمنزلةِ الشمسِ والقمرِ في إدراكِ المدركاتِ بها.
• وأعضاؤُه تصيرُ عند البِلى ترابًا من جنسِ الأرضِ.
• وفيه من جنسِ الماءِ العرقُ وسائرُ رطوباتِ البدنِ.
• ومن جنسِ الهواءِ فيه الروحُ والنفسُ.
• ومن جنسِ النارِ فيه المرةُ الصفراءُ.
• وعروقُه بمنزلةِ الأنهارِ في الأرضِ.
• وكَبِدُه بمنزلةِ العيونِ التي تستمدُّ منها الأنهارُ لأن العروقَ تستمدُّ من الكبدِ.
• ومثانَتُه بمنزلةِ البحرِ؛ لانصبابِ ما في أوعيةِ البدنِ إليها، كما تنصبُّ الأنهارُ إلى البحرِ.
• وعظامُه بمنزلةِ الجبالِ التي هي أوتادُ الأرضِ.
• وأعضاؤُه كالأشجارِ، فكما أنَّ لكلِّ شجرةٍ ورقًا وثمرًا، فَلِكُلِّ عضوٍ فعلٌ أو أثرٌ.
• والشعرُ على البدنِ بمنزلةِ النباتِ والحشيشِ على الأرضِ.
ثمَّ إنَّ الإنسانَ يحكي بلسانِه كلَّ صوتِ حيوانٍ، ويحاكِي بأعضائِه صنعَ كلِّ حيوانٍ.
فهو العالمُ الصغيرُ مع العالمِ الكبيرِ، مخلوقٌ مُحدَثٌ لصانعٍ واحدٍ لا إلهَ إلا هُو
قال قتادةُ في قولِه تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} قالَ: «من تفَكَّرَ في نفسِه علِمَ أنَّه خُلِقَ ليَعْبُدَ اللهَ»، وقال ابنُ الزبيرِ ومجاهدٌ: «المرادُ: سبيلُ الخلاءِ والبولِ».
وقال السائبُ بنُ شريكٍ: «يأكلُ ويشربُ من مكانٍ واحدٍ ويُخْرِجُ من مكانينِ».
ولو شَرِبَ لبنًا محضًا لخرجَ منه الماءُ ومنهُ الغائطُ.
وقال ابنُ زيدٍ: «المعنى أنَّه خلقَكُم من ترابٍ وجعلَ لكمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ
{ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}
[الروم:20]».
وقال السدِّيُّ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي: «في حياتِكُم وموتِكم وفيما يدخلُ ويخرجُ من طعامِكم».
وقال الحسنُ: «في الهرمِ بعدَ الشبابِ، والضعفِ بعدَ القوَّةِ، والشيبِ بعدَ السوادِ».
وقيلَ المعنى: وفي خلقِ أنفسِكم من نطفةٍ وعلقةٍ ومُضْغةٍ ولحمٍ وعظمٍ إلى نفخِ الروحِ، وفي اختلافِ الألسنةِ والألوانِ والصورِ إلى غيرِ ذلكَ من
الآياتِ الباطنةِ والظاهرةِ، وحسبُكَ بالقلوبِ وما ركَزَ فيها من العقولِ، وما خُصَّت به من أنواعِ المعاني والفنونِ، وبالألسنِ والنطقِ ومخارجِ الحروفِ، والأبصارِ والأطرافِ، وسائرِ الجوارحِ، وتأتيها لما خُلقتْ له، وما سوَّى في الأعضاءِ من المفاصلِ للانعطافِ والتثَنِّي {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، وقوله: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} يعني بَصَرَ القلبِ، ليعرِفُوا كمال قدرة الخالق
أراد رجلٌ أن يحاججَ الإمامَ عليًّا رضي الله عنه فوقفَ وقال: «يا عليّ! إني سائلُك .. فقال الإمام: سلْ تفقهًا ولا تسأل تعنُّتًا. فقالَ الرجلُ: أنت حَمَلْتني على ذلك ثم قال: هل رأيتَ ربَّك يا عليّ؟ قال: ما كنتُ أعبد ربًّا لم أرَه! فقال الرجلُ: كيف رأيته؟ قال: لم تَرَهُ العيونُ بمشاهدةِ العيانِ، ولكن رأتْه القلوبُ بحقيقةِ الإيمانِ، ربي واحدٌ لا شريكَ له، أحدٌ لا ثانيَ له، فردٌ لا مِثلَ له، لا يحويه مكانٌ، ولا يداولُه زمانٌ، لا يُدْرَكُ بالحواسِّ، ولا يُقَاسُ بالقِيَاسِ»
قال عليّ رضي الله عنه:
دواؤُك فيكَ وما تبصرُ ... وداؤُك منكَ وما تشعرُ
وتزعمُ أنَّك جرمٌ صغيرٌ ... وفيكَ انطَوَى العالمُ الأكبرُ
فمن تأمل في ذاتِه، وتفكَّرَ في صفاتِه ظهرت له عظمةُ باريه، وآياتُ مُبْدِيه ..
فسبحانه من ربٍّ لا يُضَاهَى، ومنانٍ لا يُحصَى كرمُهُ ولا يتناهى، ونحن في تيارِ بحرِ جودِه سابحونَ، وعن إقامةِ مراسمِ شُكْرِهِ قاصرونَ. وما أحسنَ قولَ بعضِ العارفينَ: أنه تعالى يملكُ عبادًا غيرَك، وأنت ليس لك ربٌّ سواه ثم إنك تتساهلُ في خدمَتِهِ، والقيامِ بوظائفِ طاعتِهِ، كأنَّ لك ربًّا بل أربابًا غيرَه، وهو سبحانه يعتني بتربيتِك حتى كأنه لا عبدَ له سواك، فسبحانَه ما أتمَّ تربيتَه، وأعظمَ رحمتَه
إليك إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي ... وإن كنتُ ياذا المنِّ والجودِ مجرمًا
ولما قَسَا قلبي وَضَاقَتْ مذَاهبي ... جعلتُ الرَّجا مِني لعفوكَ سُلَّمًا
تعاظَمَنِي ذنبي فلما قرنتُه ... بعفْوِكَ ربِّي كان عفوُكَ أعظَمَا
وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنبِ لم تَزَلْ ... تجُودُ وتعفُو مِنَّةً وتكرُّما
ولولاكَ لم يصمدْ بإبليسَ عابدٌ ... فكيفَ وقد أغْوَى صفيَّكَ آدمَا
فيا ليتَ شِعْرِي هل أصيرُ لجنةٍ ... فَأَهْنَا وأما للسعيرِ فأنْدَمَا
وإني لآتِي الذنبَ أعرفُ قدرَه ... وأعلمُ أن اللهَ يعفُو ويرحَمَا
فإن تعفُ عني تعفُ عن متمردٍ ... ظلُومٍ غشُومٍ لا يزايلُ ماثَمًا
وإن تنتقِمْ مني فلستُ بآيسٍ ... ولو أُدْخِلَتْ نفسي بجُرمي جهنَّمَا