الاثنين، 27 يوليو 2015

عنايةُ اللهِ بالإنسانِ







عنايةُ اللهِ بالإنسانِ





جاء في بعضِ الآثارِ 

============================

 يا ابن آدم! أنَّى تعجزُني وقد خلقتُك من نطفةٍ، ثم من علقةٍ، ثمَّ من مضغةٍ، ثم نفختُ فيك الروحَ، وجعلتُ لك مُتَّكأً عن يمينِك، ومتَّكأً عن شمالِك. فالذي عن يمينِك الكبدُ، والذي عن شمالِك الطحالُ، وجعلتُ وجهك إلى ظهرِ أمِّك حتى لا تفزَعَ من الرَّحِمِ، وغشَّيتُ وجهَك بغشاءٍ حتى لا تؤذيكَ رائحةُ الطعامِ، ورزقتُك وأنتَ في بطنِ أمِّك. حتى إذا جاءَ وقتُ خروجِك إلى الدنيا، أمرتُ الملكَ الموكَّلَ، فأخرجَك إلى الأرضِ، ليسَ لكَ يدٌ تبطِشُ، ولا رِجْلٌ تسعَى بها، ولا سنٌّ يقطَعُ. وأنبتُّ لك في صَدْرِ أمِّك عرقَيْنِ رقيقينِ يُغَذِّيَانِكَ بلبنٍ سائغٍ، باردٍ في الصيفِ، دافئٍ في الشتاءِ. وقذفتُ محبَّتَك في قلبِ والدَيْكَ، فلا يأكلانِ حتى تأكلَ، ولا يشربانِ حتى تشربَ، ولا يرقدانِ حتى ترقدَ، حتى إذا اشتدَّ عودُك، وقَوِيَ جسمُك بارَزْتَني بالمعاصي، ولم تستحِ منِّي! ومعَ ذلك إن تبتَ إليَّ قبلتُك، وإن سألتَنِي أعطيتُك، وإن استَغْفَرْتَنِي غفرتُ لكَ، وأنا الرحمنُ الرحيمُ.

{أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم} 

[يس:77 - 79].


عن بُسرِ بن جِحَاشٍ القرشيِّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بزقَ يومًا في كفِّهِ، فوضَع عليها أصبعَه، ثم قالَ: «قالَ اللهُ: ابنَ آدمَ! أنَّى تُعجِزُنِي، وقد خلقْتُك من مثلِ هذه .. حتى إذا سوَّيتُك وعدَّلتُك مشيتَ بين بردين، وللأرضِ منك وئيدٌ،

============================

فجَمعتَ ومنعتَ .. حتى إذا بلغَتِ التراقِيَ قلتَ: أتصدَّقُ، وأنَّى أوانُ الصدقةِ  

[رواه أحمد].

قال ابنُ الجوزيِّ: «وجميعُ الموجوداتِ من آثارِ قدرتِه .. وأعجبُ آثارِ الآدميّ، فإنك إذا تفكرتَ في نفسِك كَفَى، وإذا نظرتَ في خلقِك شَفَى! أليس قد فعلَ في قطرةٍ من ماءٍ ما لو انقَضَتِ الأعمارُ في شرحِ حكمَتِه ما وفَّتْ؟
كانتِ النقطةُ مغموسةً في دمِ الحيضِ ومقياسُ القدرةِ يشقُّ السَّمْعَ والبصرَ!
خلق منها ثلاثمائةٍ وستينَ عظمًا، وخمسمائةٍ وتسعًا وعشرينَ عَضَلَةً، كلٌّ من ذلك تحتَه حكمةٌ.
فالعينُ سبعُ طبقاتٍ، وأربعةٌ وعشرينَ عضلةً لتحريكِ حَدَقَةِ العينِ وأجفانِها، لو نُقِصَتْ منها واحدةٌ لاختلَّ الأمرُ.
وأظهرَ في سوادِ العينِ على صِغَرِه صورةَ السماءِ مع اتساعِها.
وخالفَ بينَ أشكالِ الحناجرِ في الأصواتِ.
وسخَّر المعدةَ لإنضاجِ الغذاءِ.
والكبدَ لإحالتِه إلى الدمِ.
والطحالَ لجذبِ السوداءِ.

والمرارةَ تناولُ الصفراءَ كلَّها.

============================

والعروقَ كالخدمِ للكبدِ، تنفذُ منها الدماءُ إلى أطرافِ البدنِ.

فيا أيُّها الغافلُ! ما عندكَ خبرٌ منك، فما تعرفُ من نفسِكَ إلا أن تجوعَ فتأكلَ، وتشبعَ فتنامَ، وتغضبَ فتخاصِمَ، فبماذَا تميزتَ على البهائمِ؟!

وفي أنفسِكم أفلا تُبصرون







وفي أنفسِكم أفلا تُبصرون















تفكَّرْ في نفسِك أيُّها الإنسانُ .. أين كنتَ؟ وكيف جئتَ؟ ومم خلقتَ؟

قال تعالى:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ* ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ* ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَانَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 

[المؤمنون:12 - 16].

فالإنسانُ إذا تفكَّر بعقلِه في نفسِه رآها مدبَّرةً وعلى أحوالٍ شتَّى مُصَرَّفة .. كان نطفةً، ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم لحمًا وعظمًا .. فيعلمُ ـ بهذا الفكرِ ـ أنه لم ينتقِلْ من حالِ النقصِ إلى حالِ الكمالِ، لأنَّه لا يقدرُ على أن يحدثَ لنفسِه في الحالٍ الأفضلِ التي هي كمالُ عقلِه وبلوغِ أشدِّه عُضْوًا من الأعضاءِ، ولا يمكنُه أن يزيد في جوارحِه جارحةً، فيدلُّه ذلك على أنه في حالِ نقصِه وأوانِ ضعفِه على فِعل ذلك أعجزُ.
وقد يرى نفسَه شابًّا ثم كهلًا، ثم شيخًا وهو لم ينقِلْ نفسَه من حالِ الشبابِ والقوةِ إلى حالِ الشيخوخةِ والهرمِ، ولا اختارَه لنفسِه، ولا في وُسْعِه أن يزايلَ حالَ المشيبِ ويراجعَ قوةَ الشبابِ.
فيعلمُ بذلك أنه ليس هو الذي فعلَ تلكَ الأفعالَ بنفسِه، وأنَّ له صانعًا صنَعَه، وناقلًا نَقَلَهُ من حالٍ إلى حالٍ، ولولا ذلك لم تتبدلْ أحوالُه بلا ناقلٍ ولا مدبرٍ.




وقالَ بعضُ الحكماءِ: إن كلَّ شيءٍ في العالمِ الكبيرِ له نظيرٌ في العالمِ الصغيرِ الذي هو بدنُ الإنسانِ ولذلك 

قال تعالى:

{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}

[الذرايات:21].

• والسمعُ والبصرُ منها بمنزلةِ الشمسِ والقمرِ في إدراكِ المدركاتِ بها.
• وأعضاؤُه تصيرُ عند البِلى ترابًا من جنسِ الأرضِ.
• وفيه من جنسِ الماءِ العرقُ وسائرُ رطوباتِ البدنِ.
• ومن جنسِ الهواءِ فيه الروحُ والنفسُ.
• ومن جنسِ النارِ فيه المرةُ الصفراءُ.
• وعروقُه بمنزلةِ الأنهارِ في الأرضِ.
• وكَبِدُه بمنزلةِ العيونِ التي تستمدُّ منها الأنهارُ لأن العروقَ تستمدُّ من الكبدِ.
• ومثانَتُه بمنزلةِ البحرِ؛ لانصبابِ ما في أوعيةِ البدنِ إليها، كما تنصبُّ الأنهارُ إلى البحرِ.
• وعظامُه بمنزلةِ الجبالِ التي هي أوتادُ الأرضِ.
• وأعضاؤُه كالأشجارِ، فكما أنَّ لكلِّ شجرةٍ ورقًا وثمرًا، فَلِكُلِّ عضوٍ فعلٌ أو أثرٌ.
• والشعرُ على البدنِ بمنزلةِ النباتِ والحشيشِ على الأرضِ.


 ثمَّ إنَّ الإنسانَ يحكي بلسانِه كلَّ صوتِ حيوانٍ، ويحاكِي بأعضائِه صنعَ كلِّ حيوانٍ.
فهو العالمُ الصغيرُ مع العالمِ الكبيرِ، مخلوقٌ مُحدَثٌ لصانعٍ واحدٍ لا إلهَ إلا هُو  
قال قتادةُ في قولِه تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} قالَ: «من تفَكَّرَ في نفسِه علِمَ أنَّه خُلِقَ ليَعْبُدَ اللهَ»، وقال ابنُ الزبيرِ ومجاهدٌ: «المرادُ: سبيلُ الخلاءِ والبولِ».
وقال السائبُ بنُ شريكٍ: «يأكلُ ويشربُ من مكانٍ واحدٍ ويُخْرِجُ من مكانينِ».
ولو شَرِبَ لبنًا محضًا لخرجَ منه الماءُ ومنهُ الغائطُ.
وقال ابنُ زيدٍ: «المعنى أنَّه خلقَكُم من ترابٍ وجعلَ لكمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ 

{ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}

[الروم:20]».

وقال السدِّيُّ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي: «في حياتِكُم وموتِكم وفيما يدخلُ ويخرجُ من طعامِكم».
وقال الحسنُ: «في الهرمِ بعدَ الشبابِ، والضعفِ بعدَ القوَّةِ، والشيبِ بعدَ السوادِ».
وقيلَ المعنى: وفي خلقِ أنفسِكم من نطفةٍ وعلقةٍ ومُضْغةٍ ولحمٍ وعظمٍ إلى نفخِ الروحِ، وفي اختلافِ الألسنةِ والألوانِ والصورِ إلى غيرِ ذلكَ من

الآياتِ الباطنةِ والظاهرةِ، وحسبُكَ بالقلوبِ وما ركَزَ فيها من العقولِ، وما خُصَّت به من أنواعِ المعاني والفنونِ، وبالألسنِ والنطقِ ومخارجِ الحروفِ، والأبصارِ والأطرافِ، وسائرِ الجوارحِ، وتأتيها لما خُلقتْ له، وما سوَّى في الأعضاءِ من المفاصلِ للانعطافِ والتثَنِّي {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، وقوله: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} يعني بَصَرَ القلبِ، ليعرِفُوا كمال قدرة الخالق  
أراد رجلٌ أن يحاججَ الإمامَ عليًّا رضي الله عنه فوقفَ وقال: «يا عليّ! إني سائلُك .. فقال الإمام: سلْ تفقهًا ولا تسأل تعنُّتًا. فقالَ الرجلُ: أنت حَمَلْتني على ذلك ثم قال: هل رأيتَ ربَّك يا عليّ؟ قال: ما كنتُ أعبد ربًّا لم أرَه! فقال الرجلُ: كيف رأيته؟ قال: لم تَرَهُ العيونُ بمشاهدةِ العيانِ، ولكن رأتْه القلوبُ بحقيقةِ الإيمانِ، ربي واحدٌ لا شريكَ له، أحدٌ لا ثانيَ له، فردٌ لا مِثلَ له، لا يحويه مكانٌ، ولا يداولُه زمانٌ، لا يُدْرَكُ بالحواسِّ، ولا يُقَاسُ بالقِيَاسِ» 
قال عليّ رضي الله عنه:

دواؤُك فيكَ وما تبصرُ ... وداؤُك منكَ وما تشعرُ

وتزعمُ أنَّك جرمٌ صغيرٌ ... وفيكَ انطَوَى العالمُ الأكبرُ

فمن تأمل في ذاتِه، وتفكَّرَ في صفاتِه ظهرت له عظمةُ باريه، وآياتُ مُبْدِيه ..


فسبحانه من ربٍّ لا يُضَاهَى، ومنانٍ لا يُحصَى كرمُهُ ولا يتناهى، ونحن في تيارِ بحرِ جودِه سابحونَ، وعن إقامةِ مراسمِ شُكْرِهِ قاصرونَ. وما أحسنَ قولَ بعضِ العارفينَ: أنه تعالى يملكُ عبادًا غيرَك، وأنت ليس لك ربٌّ سواه ثم إنك تتساهلُ في خدمَتِهِ، والقيامِ بوظائفِ طاعتِهِ، كأنَّ لك ربًّا بل أربابًا غيرَه، وهو سبحانه يعتني بتربيتِك حتى كأنه لا عبدَ له سواك، فسبحانَه ما أتمَّ تربيتَه، وأعظمَ رحمتَه  


إليك إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي ... وإن كنتُ ياذا المنِّ والجودِ مجرمًا

ولما قَسَا قلبي وَضَاقَتْ مذَاهبي ... جعلتُ الرَّجا مِني لعفوكَ سُلَّمًا

تعاظَمَنِي ذنبي فلما قرنتُه ... بعفْوِكَ ربِّي كان عفوُكَ أعظَمَا

وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنبِ لم تَزَلْ ... تجُودُ وتعفُو مِنَّةً وتكرُّما

ولولاكَ لم يصمدْ بإبليسَ عابدٌ ... فكيفَ وقد أغْوَى صفيَّكَ آدمَا

فيا ليتَ شِعْرِي هل أصيرُ لجنةٍ ... فَأَهْنَا وأما للسعيرِ فأنْدَمَا

وإني لآتِي الذنبَ أعرفُ قدرَه ... وأعلمُ أن اللهَ يعفُو ويرحَمَا

فإن تعفُ عني تعفُ عن متمردٍ ... ظلُومٍ غشُومٍ لا يزايلُ ماثَمًا

وإن تنتقِمْ مني فلستُ بآيسٍ ... ولو أُدْخِلَتْ نفسي بجُرمي جهنَّمَا











الجمعة، 10 يوليو 2015

الحجاج بن يوسف والحسن رحمه الله










الحجاج بن يوسف   

 والحسن رحمه الله











حكى عبد الملك بن قريب الأصمعي في أخباره عن أبي نعامة، قال: كنا جلوساً ذات يوم عند الحسن
في المسجد الجامع؛ فإذا الحجاج بن يوسف قد أقبل على برذون أبيض، وحوله شُرْطُه يسعون، حتى
انتهى الى الحَلْقَة، فسلم ثم نزل فجلس بيني وبين الحسن.
قال أبو نُعَامَة: وكان الحسن يحدث حديثا فمضى في حديثه، ولم يقطعه من أجل الحجاج حتى فرغ
منه. ثم أقبل على الحجاج يسائله، فقال الحجاج: أيها الناس. ان هذا الشيخ مبارك معظم لأمر الله جلّ
وعز، عالم بحق أهل القبلة، ناصح لأهل هذي الملة، صاحب استقامة، ونصيحة للعامة. فعليكم بهذا
الشيخ. فألزموه واحضروا مجلسه. فان مجلسه مجلس يعرف فضله، وترتجى عاقبته. فلولا الذي
لزمنا من هذه البلية، وحق الرعية، لأ حببت مشاهدتكم، وحضور شيخكم. ثم نهض فانصرف؛ فما
لبثنا أن جاءت من عنده سفرة عليها أطعمة من كل ضرب. وجاءت أشربة وتحف فوضعت بيننا.
فأكل من أكل، ثم رفع ذلك. وقام شيخ كبير، فاستقبل الحسن بوجهه، فسلم ثم قال: يا أبا سعيد؛ شيخ
كبير من أهل، الديوان، وعطائى حقير زهيد. وانه لما خرج عطائي كلفت فيه فرسا وسلاحا. وما فيه
يحتمل ذلك، ولا فيه فضل من عيالي. وان عليّ لدينا ما أصل إلى الخروج منه. ثم بكى

بكاء شديدا. فرفع الحسن رأسه، فبكى أشد من بكائه، ثم قال: ان سلطاننا هذا أخفر ذمة الله، وتحول عباد الله،
وقتلهم علي الدينار والدرهم، وقطعهم عضوا عضوا. أخذه من كل خبيث، وأنفقه في كل سرف
مضغة قليلة، وندامة طويلة. أما إذا خرج عدوّ الله، فصاحب مراكب رفافه؛ وسرادقات هفافه؛ وإذا
خرج أخوه المسلم فطاويا، راجلا مهموماً، مالهم أراحنا الله منهم.
قال: فسعي هذا إلى الحجاج ووالله ما برحنا، حتى جاء حرسيّان، في أعناقهما سيفان. فقالا للحسن:
أجب الأمير. قال أبو نعامة: فخفنا والله. وكانت مخوفة. فانطلقت معه أنا وثابت حتى دخلنا على
الحجاج، وهو قاعد على سريره، وبيده قضيب يضرب به. والغضب ظاهر في وجهه، فانتهى إليه
الحسن، فسلم ووقف بين يديه. فقال له الحجاج: يا حسن. أنت صاحب الكلمات قبيل. قال: نعم،
أصلح الله الأمير. قال: فنكس الحجاج رأسه، وأطرق طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: أعدهن يا علي.
فاعادهن كلهن، ما أسقط منهنّ واحدة. فأطرق الحجاج أيضا طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: وما دعاك
إلى هذا. قال: ما أخذ الله تبارك وتعالى علينا في كتابه، في قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) قال: وكان الحسن يفسرها:
لتتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل فأطرق أيضا طويلا، ثم رفع رأسه فقال: اذهب أيها الرجل، فتكلم
بما بدا لك، فانما أنت والدٌ في أنفسنا، غير ظنين عندنا ولا متهم؛ بل ناصح لخاصتنا وعامتنا، فليس
مثلك يؤاخذ بقول ما كان؛ لأنك ما تريد إلا خيراً.